سرد - قصص و روايات
يشير العنوان إلى القصة المعروفة في 'كليلة ودمنة' حيث اتفقت سلحفاة مع بطتين صديقتين على حملها إلى مكان فيه ماء فأخذت كل بطة بطرف عود وطلبتا من السلحفاة أن تتعلق بوسطه وحذرتاها قائلتين : 'إياك إذا سمعت الناس يتكلمون أن تنطقي'. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: 'عجب! سلحفاة بين بطتين قد حملتاها'. فلما سمعت ذلك قالت: 'فقأ الله أعينكم أيها الناس'. فعندما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت.
هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة, فوقائعها محتملة الحدوث, وبطلها ليس مستحيلاً وجوده, ومن يدري? ربما كان حيًّا يرزق! والواقع أنني أعرفه, بل تربطني به صلة أقوى وأشهي من القرابة والنسب, صلة الجوار. فنحن أولاد حارة واحدة. أسارع وأقول إنها - والحمد لله - حارة مسدودة, فمثل هذه الحارات وحدها هي التي تعمل في تصفية الود بين الجيران ما تعمله الزجاجة في تعتيق الشراب. على رأس الحارة تقوم دار داود أفندي بطل هذه القصة الخيالية: واجهة طويلة بها الباب على الحارة, وواجهة أخرى على الشارع, مع أنها شبر ونصف شبر عرضًا, إلاّ أنها تدل على أن صاحب الدار أوجه وأغنى من بقية السكان الذين لا يستطيعون رؤية الزّفات والمواكب و"الخناقات" إلاّ بثني رقابهم, وبخطر الوقوع في يد رجال الإسعاف.
وداود أفندي لو خرج من بين سطور هذه القصة الخيالية وعاش, لكان الوحيد بيننا الذي يسكن في ملكه. والمعروف أن له أيضًا استحقاقًا في وقف عن أم أمه أو جد جده, فلماذا يتشبث بهذه الدار القديمة في هذه الحارة المسدودة?! لو كنت مكانه لانتقلت إلى الحلمية أو المنيرة . كلنا نُجلّه لِغناه, و"نستعبطه" لنزوله إلى مستوانا, ولَعلّي كنت من بين سكان الحارة, أكثرهم ارتباطًا به رغم اختلافنا في السن والمهنة.
كنت إذا عدت لداري من المطبعة في صفرة الشمس, ومررت عليه وهو جالس أمام باب داره, دعاني لمجالسته وتشبث بي, كأنه يجد لذة في أن تصافح يده الناعمة النظيفة يدًا صلبة خشنة كيدي. في هذه الجلسات تأتّى لي أن أنصت لهُ أو أحثُّه على القول حتى وقفت على تاريخ حياته, وليس فيها - مع الأسف - شيء من الأسرار التي تشرئب لها الأذن. هو من أولاد الذوات الذين ورثوا عن وارثين عن وارثين, فكان من المعقول أن يفتقروا طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل, فأصبحوا كالحيوان البرمائي لا هو هنا ولا هو هناك. فهم لذلك أسرع انقراضًا. هو بالنسبة إلينا غني, ولكنه في الواقع فقير. ومع ذلك, فهو يعتز بأصل لا يغنيه فيستريح, ولا يسلكه في الفقراء فيريح. وماذا يفعل وهو من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ابن عز في كرمه وجهله, في طيبته مع معارفه, وازوراره, بل نفوره, من الغرباء? تجافيه عن العالم الخارجي فيه تمسك بالماضي, كأنه يعيش من وراء سدّ الصين. له قصص شائقة عن تخوت الحمولي وعثمان . بين الحين والحين يخرج علبة بيكاربونات الصودا ويسفّ منها قليلاً دواء لمعدته, هو متأنق لا يأكل إلاّ أخفّ الطعام في أغلب أيامه. وهو ككل أولاء الذوات الذين تربوا في آثار عز سالف, وجدت فيه مع الكبرياء والأنفة كثيرًا من أخلاق الصبيان وقلة دراية بالحياة في معتركاتها.
أذكر هذا لأنني كنت جالسًا معه في إحدى الأمسيات, فرأيت صبي شيخ الحارة قادمًا علينا, مجدًّا في خطواته, ساهم النظرة كأنه في غيبوبة. هو زنجي وأغلب الظن أنه ولد في بوظة أو كان مهده قرعة . وجه نحس بشفته الغليظة الباذنجانية. وعيونه المختبئة تحت جفونه المرتخية تبدو كالخرزة الزرقاء لا تفترق عن عيون التيس في جمودها ومكرها. حتى إذا وقف أمامنا أخرج من جيب سترته ورقة صغيرة متسخة وسلمها لداود أفندي. ما هذه? دارت نظرتي خلسة في لهف حول كتفه, ووقعت على الورقة, فوجدت مكتوبًا عليها "91 أحوال".
- حضرتك مطلوب في القسم باكر.
- ليه?
لا جواب.
- عند مين?
لا جواب.
تحرك الأسود وسار. فعزرائيل لا يتريث ليبكي مع أهإلى الميت. ثم ما كاد يسير خطوتين حتى أفاق لنفسه وعاد إلينا من جديد, فأصول اللطمة أن تكون من قلمين, ومال بوجهه - وجه الوابور - على أذن داود أفندي:
- عمي يرجوك ويرجوك ألاّ تتأخر.
ثم كأنه فص وملح وذاب.
داود أفندي قلق, حائر. بين حين وآخر يسألني:
- يا ترى لماذا? لم أذهب للقسم في حياتي, وأشد ما أكره أن أتخطى بابه وأواجه هذا الصنف المسمى رجال البوليس! أعوذ بالله! من الذي اشتكاني? هل أتيت جرمًا دون أن أعلم?
كنت غير ملقٍ بالي إلى همّه التافه. ولكني انتبهت وعجبت من أن كثيرًا من الناس الطيبين لا يسلمون في بعض الأحيان من الوهم والشك في براءة ماضيهم. ألأنّ في قلوبهم نازعًا خفيّا إلى الإجرام فتختلط في أذهانهم الرغبة بالحقيقة, أم هم يستيقظون فجأة إلى أنه ليس هناك دليل واحد على أن الحياة غير مزدوجة?!
قد يكون الشخص الواحد مع الناس يذهب ويجيء, ولكنه لا يستطيع أن يكون واثقًا كل الوثوق من أن ليس له في الوقت نفسه حياة أخرى مبهمة كالأحلام, لا يشعر بها, كما لا يشعر بما حوله من ركبه الدوار: حياة تتصل طيّ ضباب كثيف, بحياة أشد غموضًا لكائنات أخرى.
كنت أود أن أهدئ مخاوفه وأطمئنه, لكني خشيت أن يعود سريعًا إلى الحديث الممل العادي الذي شبعت منه ليلة بعد ليلة, وخفت أكثر أن ينقطع الحديث سريعًا, لأن الكلمة الطيبة قلما تقبل المطّ. وأحسست برغبة في البقاء على رأس الحارة وقد طابت الجلسة وشملنا الغروب بسحره. في كل مرة أنتبه للحظة سقطة قرن الشمس, أشعر أنها شهقة دوامة تحتضر, كان انفراجها النهار وانطباقها الليل. فأخذت - علم الله لا لغرضٍ إلاّ إطالة الجلسة الظريفة - أستثيره وأحرك مخاوفه. ونقلت الحديث من البوليس وفظاظته إلى البلطجية وأفاعيلهم. رئيسي في المطبعة له شهر في الحبس ولا يدري لماذا. وآخر اتّهمه بلطجي بالتزوير ليفرض عليه ضريبة: ولهؤلاء البلطجية حيل لا يصل إلى قرارها الشيطان إن وصل: وربما سبقوا بالشكوى ليستولوا على أجر التصالح. ومن يدري?! ربما وجدوا فيك يا داود أفندي بطيبتك خير صيد فمدوا حولك حبائلهم. ثم إنني لست مطمئنًا إلى "91 أحوال" هذه! ووجه صبي شيخ الحارة ينمّ عن شر كبير, ولا بد أنه عالم بشيء لم يرد الإفضاء به إلينا. ولم أقم إلاّ بعد أن "استوى" داود أفندي, وبعد أن استحلفني أن أمر عليه في الصباح لنذهب إلى القسم معًا.
لا أدري هل تأخرت في النوم عفوًا أم أحببت أن أستريح من سهرة الأمس. استيقظت وقد ارتفعت الشمس, فخرجت من الحارة مهرولاً كأنني هارب. ومع ذلك تشبث نظري لحظة وأنا أجري بباب بيت داود أفندي, وخيل إليَّ أن مطرقته - وهي من نحاس على شكل يد مضمومة - تنبسط وتشير بسبابتها إليّ!, إلاّ أن لمعانها ذكّرني سوَر مقام أم هاشم, وتعلق المهزومين المرضى والمنكوبين بقضبانه. وانقبض قلبي خوفًا على صديقي داود أفندي. فمن نحس هذا الزمان ولُؤمه أن يُهانَ رجل طيب مسالم مثله, ويكون مثله عند دخول القسم كمثل حيوان أليف آكل عشب يجد نفسه فجأة في غابة تعج بكل ذي ظفر وناب. مع ذلك - وهذا شأن الحياة واكتساب الرزق بعرق الجبين وقشف اليدين - نسيته ونسيت أوهامه وأنا منمح مفقود وسط آلات المطبعة وهي تضج وتصطك في حركات مفاجئة منتظمة كأنها نفضات مُقعَدٍ محموم. انتبهت إلى ذكراه وأنا أمام داره في عودتي للحارة. رأيته في انتظاري جالسًا على كرسيه متلفعًا بعباءته. عندما قاربته حمدت الله أنني وجدته في حدة وغضب أنسىاه خلفي لوعدي. ومع ذلك ما كاد يكلمني حتى فهمت مع الأسف أن لعبتي بالأمس في إثارة مخاوفه وتحريضه على رجال البوليس, قد أدت إلى النتيجة التي كنت أريدها ولا أتوقعها. أستغفر الله, أقصد أتوقعها ولا أريدها. كانت الدعوة إلى القسم في شأن مخالفة هينة: إلقاء ماء قذر في الطريق. ومع ذلك كان الجاويش من الفظاظة وقلة الأدب وداود أفندي من الكبرياء وقلة الصبر, بحيث وقعت الواقعة بينهما ثم لم أستطع أن أفهم من داود أفندي ما حصل بالضبط. بكل صعوبة وبعد تردد كبير, اعترف أن الجاويش هزَّهُ هزة أوقعت طربوشه على الأرض أمام عدد كبير من الناس, بينهم بعض من يعرفونه من أهالى الحي. حاولت أن أخفف حدته, لكنه قاطعني قائلاً:
- لازم أطلب رد شرفي.
تطلعت إلى عينيه فوجدت فيهما, لا أمارات الغضب, بل أضواء سعادة كبيرة. أردت أن أقوم بواجبي وأصرفه عن التفكير الكثير في أمر تافه, لكني عدلت سريعًا, لأنني رأيت زورقه قد بدأ يتحرك من المستنقع ليخرج إلى البحر العالي بأمواجه. وانقطع حديثه المبتذل. وأخذ يتكلم لأول مرة كلامًا لا يسير على قضيبين مرسومين. خفت عليه أن يعود إلى ركوده وابتذاله, فهدتني الحيلة إلى أن أقول له:
- رد شرفك وطالب بتعويض قرش صاغ واحد!
قلتها لأنني أعلم أن لهذه الجملة سحرًا غريبًا يخلب أذهان عامة الشعب والبعيدين عن المحاكم والقوانين. ولعل أكثر الحقائق بريقًا وخلبًا للأذهان ما كان أساسها التناقض. فكيف يثور من يغضب للإهانة, ومع ذلك تنتهي ثورته بأن يثمن شرفه بقرش واحد? أي شرف هذا الذي يقدر بقرش? أثرت هذه الجملة في داود أفندي, وزاد عزمًا وإصرارًا على الحصول على هذا القرش الواحد.
قضيت معه ليلتين نتشاور في كيفية رفع الدعوى, ولكن مَنْ مِنَ المحامين يمكن أن توكل إليه القضية ويصون أمانتها? وقد وقع اختيارنا في أول الأمر على أفضل المحامين, ولكنه باتفاق الجميع ليس أعلمهم. أما أعلمهم فليس أقواهم سلطانًا ونفوذًا لدى رجال الحكم. وأقواهم سلطانًا ونفوذًا ليس أكثرهم أمانة. وأخيرًا اتفقنا على محام يسكن بالقرب منا, على الأقل نستطيع أن نتردد عليه كل يوم بلا مشقة. اخترناه, لا لفصاحته ولا لعلمه ولا لسلطانه, بل لبخته. نعم لبخته, فكل من اتصل به يؤكد أن سرًّا باتعًا يسنده, فلا يتولى قضية إلاّ كسبها. أغلب زبائنه من عامة الشعب الصالحين.
عرضنا عليه الدعوى فأكد أنها رابحة وفي أقرب ميعاد وأن الجاويش سيجازي أشد جزاء, وفوق ذلك يعاقب إداريًّا. وشرب داود أفندي من معسول كلامه, فتخدرت أعصابه, ودفع مقدم الأتعاب جنيهين كالحلاوة.
وحددت الجلسة بعد 04 يومًا.
وأخيرًا ها هو ذا القدر يتمخض بميعاد يفوز به داود أفندي. عمود تلغراف, لولاه ما شعر راكب القطار بحركته ولا بسرعته.
***
دفعته دفعًا وسط الزحام - فهو لخمة - إلى قاعة الجلسة. وأنا متلهف إلى أن أرى كيف يكون موقفه وتلعثمه بين يدي القاضي ومواجهته للجاويش خصمه ثم عدوه. و"انحشرنا" في مقعد وجلسنا ننتظر دورنا. كنت أتمنى ألاّ يكون داود أفندي شخصًا من دم ولحم, بل شخصية وهمية وليدة سطور هذه القصة الخيالية لأنني تألمت وأنا أراه ممتقع اللون مصفرًّا مرتجف اليدين. جلس بجانبي كله عيون وآذان وليس منه لسانه. أخذت أراقبه من طرف عيني, فوجدته كالقشة في بحر, ينعكس فيها أقل اضطراب لسطحه علوًّا وهبوطًا, ومدًّا وجزْرًا. اشتمله جو الجلسة من رأسه إلى أخمص قدميه. وشدّ عليه قبضته فلا يستطيع خلاصًا. كل ما يسمعه جديد, غريب, رنان, أخاذ. وأي سحر أقوى من سحر قاعة الجلسة?! صوت الجمهور بين همس ووجوم, ومحاورات القاضي والمحامين والنيابة تنقله إلى عالم غير عالمه. ثم فجأة وبدون سبب ظاهر يخيم على الجميع صمت عجيب. فيشعر أنه يسقط من علو شاهق وسط الفضاء. ثم من جديد يعود التيار إلى أشده, وإذا به محمول محملق يكاد يفقد وعيه: القفص, والجنود, نداء الحاجب. تلك التعابير القضائية التي تنحني لها الجباه إجلالاً, وهي ليست إلاّ ألفاظًا!
لم يحضر المحامي عنّا, ونودي داود أفندي ونظرت دعواه, ثم أجلت في أقل من لمح البصر.
فدفعته مرة أخرى - كالهمّ الثقيل - وسط الزحام خارج الجلسة. وما كاد يتخطى بابها حتى بلغ ريقه لأول مرة. وماذا كان يظن وهو جالس طول عمره فوق الرصيف? لم يثر فيّ اضطرابه أقل شفقة, بل شعرت أنه من العدل أن يدفع ثمن تعاليه وابتعاده عن محيط الحياة التي نعيشها نحن المكدودين المتصببين عرقًا في زحمة الحياة. ولكني ما كدت أضع ذراعي في ذراعه لأقوده إلى القهوة المواجهة للمحكمة, حتى رق قلبي وملأه عطف وحنان لم يعرفهما لأحد من قبل. وجلسنا وعلى جانبينا موائد اكتظت بوكلاء المحامين وسماسرتهم. وكنت على صلة ببعضهم, فدعوتهم للجلوس معنا وعرفتهم بصاحبي. ولما افترقنا على رأس الحارة, لم يقل لي داود أفندي كعادته: "نتقابل هنا" بل قال:
- قابلني بكرة على القهوة إياها.
دفع داود أفندي جنيهين آخرين للمحامي ليضمن حضوره في الجلسة القادمة, كما أرضى الشهود بما وسعه كرمه.
وكنت قد غبت عنه بضعة أيام. ولعلها أسابيع. ولما عدت إليه وجدته على القهوة إياها محاطًا بأصدقائه(!) من وكلاء المحامين وكلهم يحتسي القهوة والشاي. ويدخن النارجيلة على حسابه. وإذا به يشترك معهم في أحاديث مهنتهم, وتجري على لسانه نفس الألفاظ القضائية التي يتمشدقون بها, بل ويدخل معهم إلى الجلسة في بعض الأحيان. لما رأيته في هذه الحال أردت أن أساعده وأوجد له ما يشغله, فسعيت وعرفته بقريب لي معدم, منعه فقره من رفع دعوى للمطالبة بملك واسع يظلمه فيه رجل ذو بطش وسلطان. أردت أن أخدم الاثنين, ويكفيني ثواب المسعى. اتفق معي داود أفندي على أن يقوم هو بالإنفاق على الدعوى في نظير اقتسام ما يحكم به مناصفة بينهما. وأسر إلى داود أفندي أنه سيرهن مصاغ زوجته ليصرف على الدعوى.
بعد يومين رأيته يحمل "دوسيها" في يده سائرًا مُجِدًّا إلى المحكمة..
***
حدث بعد ذلك أنني نسيت جاري العزيز داود أفندي نسيانًا تامًّا, لأنني كنت قد نجحت في تحقيق أمنية طالما كتمتها في صدري, ولازمتني الليالي تنغص عليّ نومي وأكلي وشربي. كنت أريد أن أتخلص من وسط عمال اليومية وألتحق بطبقة الأفندية أصحاب المرتبات الشهرية. فكم إبليت نعليّ, وأحفيت قدميّ, وكم أرقت ماء وجهي وجف لساني - ويغني قولي هذا عن التفاصيل - حتى نلت رغبتي, وعينت حاجبًا أمام باب قلم في وزارة. تخلصت من ماضيّ الكريه كله, وتخلّصت أيضًا من الحارة المسدودة اللعينة, وسكنت المنيرة.
مضى عليّ في وظيفتي زمن. وذات يوم وأنا عائد من سوق الخضار, وفي يدي قرطاس بلح آكل منه, مررت على مطعم ولشد ما دهشت إذ وجدت فيه داود أفندي جالسًا أمام طبق فول مدمس. داود أفندي "بجلبية" وجاكتة, تجمع أصابعه بلقمة حبات الفول وتعجنها في الزيت, ثم تحملها كتلة واحدة - كالكرة - إلى فمه, ويتجشأ برائحة البصل الأخضر والفجل. أشهد الله أن قلبي انشرح, وأنني سررت كل السرور لحسن صحته ولتخلصه من أمراض معدته. وأشهد الله أنني شعرت بموجة شوق قوية تملؤني, فجريت نحوه ومددت له يدي مشتاقًا يكاد الفرح يقفز من كياني قفزًا.
- داود أفندي? سلمات, إزيك!
ولكنه ترك يدي ولم يأخذها, ولما رفع إليّ عينيه لم تستقر نظرته على وجهي حتى رأيتها تمتلئ بأقصى ما تستطيع العين أن تستوعبه من الكراهية والتأفف والبغض. وإذا به يصرخ في وجهي ويشيح عني:
- روح الله يخرب بيتك زي ما خربت بيتي!
تملكتني الحيرة فسُمِّرتُ في مكاني. أي جرم أتيت? وماذا فعلت? لا أذكر إلاّ أنني كنت دائمًا تحت أمره كأنّني عكازه. كنت أجلس منه مجلس الولد من أبيه, وأترك عملي لأكون في خدمته, ولا أذكر أنني خنته أو آذيته أو أضللته.
ولكن هذه المحاولات لم تفلح في سند سياج كنت أقيمه بكل جهدي طول الوقت, لتتحصن وراءه نفسي, ولو لتعيش في دنيا أوهامها في حمى من شك خفي بدأ يدب في قلبي, وإذا بالسياج يرغمني وينهد, وتبرز لي من ورائه تحملق في وجهي كعيون البوم, تهمة بشعة كالعدم, قاسية كالقدر المترصد راسخة كالأزل.
"كن طيّبًا ما أمكنك, حذرًا ما استطعت, فلن تكون يدك إلاّ أذى, ولا قدمك إلاّ سوءًا". شعرت في جسمي ببرودة الموت, وعشت زمنًا أرثي لحالى وأقول: يا لي من مسكين! ولكن سرعان ما أنفت هذه الضعة, وأعدت نفسي للحياة - والحياة تقوي على أقوى الآلام! - بقولي لنفسي:
- هوّن عليك... أين فجيعتك? هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة...
وهكذا من أول وجديد
[1939 ]
هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة, فوقائعها محتملة الحدوث, وبطلها ليس مستحيلاً وجوده, ومن يدري? ربما كان حيًّا يرزق! والواقع أنني أعرفه, بل تربطني به صلة أقوى وأشهي من القرابة والنسب, صلة الجوار. فنحن أولاد حارة واحدة. أسارع وأقول إنها - والحمد لله - حارة مسدودة, فمثل هذه الحارات وحدها هي التي تعمل في تصفية الود بين الجيران ما تعمله الزجاجة في تعتيق الشراب. على رأس الحارة تقوم دار داود أفندي بطل هذه القصة الخيالية: واجهة طويلة بها الباب على الحارة, وواجهة أخرى على الشارع, مع أنها شبر ونصف شبر عرضًا, إلاّ أنها تدل على أن صاحب الدار أوجه وأغنى من بقية السكان الذين لا يستطيعون رؤية الزّفات والمواكب و"الخناقات" إلاّ بثني رقابهم, وبخطر الوقوع في يد رجال الإسعاف.
وداود أفندي لو خرج من بين سطور هذه القصة الخيالية وعاش, لكان الوحيد بيننا الذي يسكن في ملكه. والمعروف أن له أيضًا استحقاقًا في وقف عن أم أمه أو جد جده, فلماذا يتشبث بهذه الدار القديمة في هذه الحارة المسدودة?! لو كنت مكانه لانتقلت إلى الحلمية أو المنيرة . كلنا نُجلّه لِغناه, و"نستعبطه" لنزوله إلى مستوانا, ولَعلّي كنت من بين سكان الحارة, أكثرهم ارتباطًا به رغم اختلافنا في السن والمهنة.
كنت إذا عدت لداري من المطبعة في صفرة الشمس, ومررت عليه وهو جالس أمام باب داره, دعاني لمجالسته وتشبث بي, كأنه يجد لذة في أن تصافح يده الناعمة النظيفة يدًا صلبة خشنة كيدي. في هذه الجلسات تأتّى لي أن أنصت لهُ أو أحثُّه على القول حتى وقفت على تاريخ حياته, وليس فيها - مع الأسف - شيء من الأسرار التي تشرئب لها الأذن. هو من أولاد الذوات الذين ورثوا عن وارثين عن وارثين, فكان من المعقول أن يفتقروا طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل, فأصبحوا كالحيوان البرمائي لا هو هنا ولا هو هناك. فهم لذلك أسرع انقراضًا. هو بالنسبة إلينا غني, ولكنه في الواقع فقير. ومع ذلك, فهو يعتز بأصل لا يغنيه فيستريح, ولا يسلكه في الفقراء فيريح. وماذا يفعل وهو من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ابن عز في كرمه وجهله, في طيبته مع معارفه, وازوراره, بل نفوره, من الغرباء? تجافيه عن العالم الخارجي فيه تمسك بالماضي, كأنه يعيش من وراء سدّ الصين. له قصص شائقة عن تخوت الحمولي وعثمان . بين الحين والحين يخرج علبة بيكاربونات الصودا ويسفّ منها قليلاً دواء لمعدته, هو متأنق لا يأكل إلاّ أخفّ الطعام في أغلب أيامه. وهو ككل أولاء الذوات الذين تربوا في آثار عز سالف, وجدت فيه مع الكبرياء والأنفة كثيرًا من أخلاق الصبيان وقلة دراية بالحياة في معتركاتها.
أذكر هذا لأنني كنت جالسًا معه في إحدى الأمسيات, فرأيت صبي شيخ الحارة قادمًا علينا, مجدًّا في خطواته, ساهم النظرة كأنه في غيبوبة. هو زنجي وأغلب الظن أنه ولد في بوظة أو كان مهده قرعة . وجه نحس بشفته الغليظة الباذنجانية. وعيونه المختبئة تحت جفونه المرتخية تبدو كالخرزة الزرقاء لا تفترق عن عيون التيس في جمودها ومكرها. حتى إذا وقف أمامنا أخرج من جيب سترته ورقة صغيرة متسخة وسلمها لداود أفندي. ما هذه? دارت نظرتي خلسة في لهف حول كتفه, ووقعت على الورقة, فوجدت مكتوبًا عليها "91 أحوال".
- حضرتك مطلوب في القسم باكر.
- ليه?
لا جواب.
- عند مين?
لا جواب.
تحرك الأسود وسار. فعزرائيل لا يتريث ليبكي مع أهإلى الميت. ثم ما كاد يسير خطوتين حتى أفاق لنفسه وعاد إلينا من جديد, فأصول اللطمة أن تكون من قلمين, ومال بوجهه - وجه الوابور - على أذن داود أفندي:
- عمي يرجوك ويرجوك ألاّ تتأخر.
ثم كأنه فص وملح وذاب.
داود أفندي قلق, حائر. بين حين وآخر يسألني:
- يا ترى لماذا? لم أذهب للقسم في حياتي, وأشد ما أكره أن أتخطى بابه وأواجه هذا الصنف المسمى رجال البوليس! أعوذ بالله! من الذي اشتكاني? هل أتيت جرمًا دون أن أعلم?
كنت غير ملقٍ بالي إلى همّه التافه. ولكني انتبهت وعجبت من أن كثيرًا من الناس الطيبين لا يسلمون في بعض الأحيان من الوهم والشك في براءة ماضيهم. ألأنّ في قلوبهم نازعًا خفيّا إلى الإجرام فتختلط في أذهانهم الرغبة بالحقيقة, أم هم يستيقظون فجأة إلى أنه ليس هناك دليل واحد على أن الحياة غير مزدوجة?!
قد يكون الشخص الواحد مع الناس يذهب ويجيء, ولكنه لا يستطيع أن يكون واثقًا كل الوثوق من أن ليس له في الوقت نفسه حياة أخرى مبهمة كالأحلام, لا يشعر بها, كما لا يشعر بما حوله من ركبه الدوار: حياة تتصل طيّ ضباب كثيف, بحياة أشد غموضًا لكائنات أخرى.
كنت أود أن أهدئ مخاوفه وأطمئنه, لكني خشيت أن يعود سريعًا إلى الحديث الممل العادي الذي شبعت منه ليلة بعد ليلة, وخفت أكثر أن ينقطع الحديث سريعًا, لأن الكلمة الطيبة قلما تقبل المطّ. وأحسست برغبة في البقاء على رأس الحارة وقد طابت الجلسة وشملنا الغروب بسحره. في كل مرة أنتبه للحظة سقطة قرن الشمس, أشعر أنها شهقة دوامة تحتضر, كان انفراجها النهار وانطباقها الليل. فأخذت - علم الله لا لغرضٍ إلاّ إطالة الجلسة الظريفة - أستثيره وأحرك مخاوفه. ونقلت الحديث من البوليس وفظاظته إلى البلطجية وأفاعيلهم. رئيسي في المطبعة له شهر في الحبس ولا يدري لماذا. وآخر اتّهمه بلطجي بالتزوير ليفرض عليه ضريبة: ولهؤلاء البلطجية حيل لا يصل إلى قرارها الشيطان إن وصل: وربما سبقوا بالشكوى ليستولوا على أجر التصالح. ومن يدري?! ربما وجدوا فيك يا داود أفندي بطيبتك خير صيد فمدوا حولك حبائلهم. ثم إنني لست مطمئنًا إلى "91 أحوال" هذه! ووجه صبي شيخ الحارة ينمّ عن شر كبير, ولا بد أنه عالم بشيء لم يرد الإفضاء به إلينا. ولم أقم إلاّ بعد أن "استوى" داود أفندي, وبعد أن استحلفني أن أمر عليه في الصباح لنذهب إلى القسم معًا.
لا أدري هل تأخرت في النوم عفوًا أم أحببت أن أستريح من سهرة الأمس. استيقظت وقد ارتفعت الشمس, فخرجت من الحارة مهرولاً كأنني هارب. ومع ذلك تشبث نظري لحظة وأنا أجري بباب بيت داود أفندي, وخيل إليَّ أن مطرقته - وهي من نحاس على شكل يد مضمومة - تنبسط وتشير بسبابتها إليّ!, إلاّ أن لمعانها ذكّرني سوَر مقام أم هاشم, وتعلق المهزومين المرضى والمنكوبين بقضبانه. وانقبض قلبي خوفًا على صديقي داود أفندي. فمن نحس هذا الزمان ولُؤمه أن يُهانَ رجل طيب مسالم مثله, ويكون مثله عند دخول القسم كمثل حيوان أليف آكل عشب يجد نفسه فجأة في غابة تعج بكل ذي ظفر وناب. مع ذلك - وهذا شأن الحياة واكتساب الرزق بعرق الجبين وقشف اليدين - نسيته ونسيت أوهامه وأنا منمح مفقود وسط آلات المطبعة وهي تضج وتصطك في حركات مفاجئة منتظمة كأنها نفضات مُقعَدٍ محموم. انتبهت إلى ذكراه وأنا أمام داره في عودتي للحارة. رأيته في انتظاري جالسًا على كرسيه متلفعًا بعباءته. عندما قاربته حمدت الله أنني وجدته في حدة وغضب أنسىاه خلفي لوعدي. ومع ذلك ما كاد يكلمني حتى فهمت مع الأسف أن لعبتي بالأمس في إثارة مخاوفه وتحريضه على رجال البوليس, قد أدت إلى النتيجة التي كنت أريدها ولا أتوقعها. أستغفر الله, أقصد أتوقعها ولا أريدها. كانت الدعوة إلى القسم في شأن مخالفة هينة: إلقاء ماء قذر في الطريق. ومع ذلك كان الجاويش من الفظاظة وقلة الأدب وداود أفندي من الكبرياء وقلة الصبر, بحيث وقعت الواقعة بينهما ثم لم أستطع أن أفهم من داود أفندي ما حصل بالضبط. بكل صعوبة وبعد تردد كبير, اعترف أن الجاويش هزَّهُ هزة أوقعت طربوشه على الأرض أمام عدد كبير من الناس, بينهم بعض من يعرفونه من أهالى الحي. حاولت أن أخفف حدته, لكنه قاطعني قائلاً:
- لازم أطلب رد شرفي.
تطلعت إلى عينيه فوجدت فيهما, لا أمارات الغضب, بل أضواء سعادة كبيرة. أردت أن أقوم بواجبي وأصرفه عن التفكير الكثير في أمر تافه, لكني عدلت سريعًا, لأنني رأيت زورقه قد بدأ يتحرك من المستنقع ليخرج إلى البحر العالي بأمواجه. وانقطع حديثه المبتذل. وأخذ يتكلم لأول مرة كلامًا لا يسير على قضيبين مرسومين. خفت عليه أن يعود إلى ركوده وابتذاله, فهدتني الحيلة إلى أن أقول له:
- رد شرفك وطالب بتعويض قرش صاغ واحد!
قلتها لأنني أعلم أن لهذه الجملة سحرًا غريبًا يخلب أذهان عامة الشعب والبعيدين عن المحاكم والقوانين. ولعل أكثر الحقائق بريقًا وخلبًا للأذهان ما كان أساسها التناقض. فكيف يثور من يغضب للإهانة, ومع ذلك تنتهي ثورته بأن يثمن شرفه بقرش واحد? أي شرف هذا الذي يقدر بقرش? أثرت هذه الجملة في داود أفندي, وزاد عزمًا وإصرارًا على الحصول على هذا القرش الواحد.
قضيت معه ليلتين نتشاور في كيفية رفع الدعوى, ولكن مَنْ مِنَ المحامين يمكن أن توكل إليه القضية ويصون أمانتها? وقد وقع اختيارنا في أول الأمر على أفضل المحامين, ولكنه باتفاق الجميع ليس أعلمهم. أما أعلمهم فليس أقواهم سلطانًا ونفوذًا لدى رجال الحكم. وأقواهم سلطانًا ونفوذًا ليس أكثرهم أمانة. وأخيرًا اتفقنا على محام يسكن بالقرب منا, على الأقل نستطيع أن نتردد عليه كل يوم بلا مشقة. اخترناه, لا لفصاحته ولا لعلمه ولا لسلطانه, بل لبخته. نعم لبخته, فكل من اتصل به يؤكد أن سرًّا باتعًا يسنده, فلا يتولى قضية إلاّ كسبها. أغلب زبائنه من عامة الشعب الصالحين.
عرضنا عليه الدعوى فأكد أنها رابحة وفي أقرب ميعاد وأن الجاويش سيجازي أشد جزاء, وفوق ذلك يعاقب إداريًّا. وشرب داود أفندي من معسول كلامه, فتخدرت أعصابه, ودفع مقدم الأتعاب جنيهين كالحلاوة.
وحددت الجلسة بعد 04 يومًا.
وأخيرًا ها هو ذا القدر يتمخض بميعاد يفوز به داود أفندي. عمود تلغراف, لولاه ما شعر راكب القطار بحركته ولا بسرعته.
***
دفعته دفعًا وسط الزحام - فهو لخمة - إلى قاعة الجلسة. وأنا متلهف إلى أن أرى كيف يكون موقفه وتلعثمه بين يدي القاضي ومواجهته للجاويش خصمه ثم عدوه. و"انحشرنا" في مقعد وجلسنا ننتظر دورنا. كنت أتمنى ألاّ يكون داود أفندي شخصًا من دم ولحم, بل شخصية وهمية وليدة سطور هذه القصة الخيالية لأنني تألمت وأنا أراه ممتقع اللون مصفرًّا مرتجف اليدين. جلس بجانبي كله عيون وآذان وليس منه لسانه. أخذت أراقبه من طرف عيني, فوجدته كالقشة في بحر, ينعكس فيها أقل اضطراب لسطحه علوًّا وهبوطًا, ومدًّا وجزْرًا. اشتمله جو الجلسة من رأسه إلى أخمص قدميه. وشدّ عليه قبضته فلا يستطيع خلاصًا. كل ما يسمعه جديد, غريب, رنان, أخاذ. وأي سحر أقوى من سحر قاعة الجلسة?! صوت الجمهور بين همس ووجوم, ومحاورات القاضي والمحامين والنيابة تنقله إلى عالم غير عالمه. ثم فجأة وبدون سبب ظاهر يخيم على الجميع صمت عجيب. فيشعر أنه يسقط من علو شاهق وسط الفضاء. ثم من جديد يعود التيار إلى أشده, وإذا به محمول محملق يكاد يفقد وعيه: القفص, والجنود, نداء الحاجب. تلك التعابير القضائية التي تنحني لها الجباه إجلالاً, وهي ليست إلاّ ألفاظًا!
لم يحضر المحامي عنّا, ونودي داود أفندي ونظرت دعواه, ثم أجلت في أقل من لمح البصر.
فدفعته مرة أخرى - كالهمّ الثقيل - وسط الزحام خارج الجلسة. وما كاد يتخطى بابها حتى بلغ ريقه لأول مرة. وماذا كان يظن وهو جالس طول عمره فوق الرصيف? لم يثر فيّ اضطرابه أقل شفقة, بل شعرت أنه من العدل أن يدفع ثمن تعاليه وابتعاده عن محيط الحياة التي نعيشها نحن المكدودين المتصببين عرقًا في زحمة الحياة. ولكني ما كدت أضع ذراعي في ذراعه لأقوده إلى القهوة المواجهة للمحكمة, حتى رق قلبي وملأه عطف وحنان لم يعرفهما لأحد من قبل. وجلسنا وعلى جانبينا موائد اكتظت بوكلاء المحامين وسماسرتهم. وكنت على صلة ببعضهم, فدعوتهم للجلوس معنا وعرفتهم بصاحبي. ولما افترقنا على رأس الحارة, لم يقل لي داود أفندي كعادته: "نتقابل هنا" بل قال:
- قابلني بكرة على القهوة إياها.
دفع داود أفندي جنيهين آخرين للمحامي ليضمن حضوره في الجلسة القادمة, كما أرضى الشهود بما وسعه كرمه.
وكنت قد غبت عنه بضعة أيام. ولعلها أسابيع. ولما عدت إليه وجدته على القهوة إياها محاطًا بأصدقائه(!) من وكلاء المحامين وكلهم يحتسي القهوة والشاي. ويدخن النارجيلة على حسابه. وإذا به يشترك معهم في أحاديث مهنتهم, وتجري على لسانه نفس الألفاظ القضائية التي يتمشدقون بها, بل ويدخل معهم إلى الجلسة في بعض الأحيان. لما رأيته في هذه الحال أردت أن أساعده وأوجد له ما يشغله, فسعيت وعرفته بقريب لي معدم, منعه فقره من رفع دعوى للمطالبة بملك واسع يظلمه فيه رجل ذو بطش وسلطان. أردت أن أخدم الاثنين, ويكفيني ثواب المسعى. اتفق معي داود أفندي على أن يقوم هو بالإنفاق على الدعوى في نظير اقتسام ما يحكم به مناصفة بينهما. وأسر إلى داود أفندي أنه سيرهن مصاغ زوجته ليصرف على الدعوى.
بعد يومين رأيته يحمل "دوسيها" في يده سائرًا مُجِدًّا إلى المحكمة..
***
حدث بعد ذلك أنني نسيت جاري العزيز داود أفندي نسيانًا تامًّا, لأنني كنت قد نجحت في تحقيق أمنية طالما كتمتها في صدري, ولازمتني الليالي تنغص عليّ نومي وأكلي وشربي. كنت أريد أن أتخلص من وسط عمال اليومية وألتحق بطبقة الأفندية أصحاب المرتبات الشهرية. فكم إبليت نعليّ, وأحفيت قدميّ, وكم أرقت ماء وجهي وجف لساني - ويغني قولي هذا عن التفاصيل - حتى نلت رغبتي, وعينت حاجبًا أمام باب قلم في وزارة. تخلصت من ماضيّ الكريه كله, وتخلّصت أيضًا من الحارة المسدودة اللعينة, وسكنت المنيرة.
مضى عليّ في وظيفتي زمن. وذات يوم وأنا عائد من سوق الخضار, وفي يدي قرطاس بلح آكل منه, مررت على مطعم ولشد ما دهشت إذ وجدت فيه داود أفندي جالسًا أمام طبق فول مدمس. داود أفندي "بجلبية" وجاكتة, تجمع أصابعه بلقمة حبات الفول وتعجنها في الزيت, ثم تحملها كتلة واحدة - كالكرة - إلى فمه, ويتجشأ برائحة البصل الأخضر والفجل. أشهد الله أن قلبي انشرح, وأنني سررت كل السرور لحسن صحته ولتخلصه من أمراض معدته. وأشهد الله أنني شعرت بموجة شوق قوية تملؤني, فجريت نحوه ومددت له يدي مشتاقًا يكاد الفرح يقفز من كياني قفزًا.
- داود أفندي? سلمات, إزيك!
ولكنه ترك يدي ولم يأخذها, ولما رفع إليّ عينيه لم تستقر نظرته على وجهي حتى رأيتها تمتلئ بأقصى ما تستطيع العين أن تستوعبه من الكراهية والتأفف والبغض. وإذا به يصرخ في وجهي ويشيح عني:
- روح الله يخرب بيتك زي ما خربت بيتي!
تملكتني الحيرة فسُمِّرتُ في مكاني. أي جرم أتيت? وماذا فعلت? لا أذكر إلاّ أنني كنت دائمًا تحت أمره كأنّني عكازه. كنت أجلس منه مجلس الولد من أبيه, وأترك عملي لأكون في خدمته, ولا أذكر أنني خنته أو آذيته أو أضللته.
ولكن هذه المحاولات لم تفلح في سند سياج كنت أقيمه بكل جهدي طول الوقت, لتتحصن وراءه نفسي, ولو لتعيش في دنيا أوهامها في حمى من شك خفي بدأ يدب في قلبي, وإذا بالسياج يرغمني وينهد, وتبرز لي من ورائه تحملق في وجهي كعيون البوم, تهمة بشعة كالعدم, قاسية كالقدر المترصد راسخة كالأزل.
"كن طيّبًا ما أمكنك, حذرًا ما استطعت, فلن تكون يدك إلاّ أذى, ولا قدمك إلاّ سوءًا". شعرت في جسمي ببرودة الموت, وعشت زمنًا أرثي لحالى وأقول: يا لي من مسكين! ولكن سرعان ما أنفت هذه الضعة, وأعدت نفسي للحياة - والحياة تقوي على أقوى الآلام! - بقولي لنفسي:
- هوّن عليك... أين فجيعتك? هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة...
وهكذا من أول وجديد
[1939 ]
نسخة من الدرس من موقع سرد - قصص و روايات
[ltr]POWERED BY: SaphpLesson3.0[/ltr]