سرد - قصص و روايات
كان جدي الشيخ رجب عبد الله إذا قدم القاهرة وهو صبي مع رجال الأسرة ونسائها للتبرك بزيارة أهل البيت, دفعه أبوه إذا أشرفوا على مدخل مسجد السيدة زينب - وغريزة التقليد تغني عن الدفع - فيهوي معهم على عتبته الرخامية يرشقها بقبلاته, وأقدام الداخلين والخارجين تكاد تصدم رأسه. وإذا شاهد فعلتهم أحد رجال الدين المتعالمين أشاح بوجهه ناقمًا على الزمن, مستعيذًا بالله من البدع والشرك والجهالة, أما أغلبية الشعب فتبسم لسذاجة هؤلاء القرويين - ورائحة اللبن والطين والحلبة تفوح من ثيابهم - وتفهم ما في قلوبهم من حرارة الشوق والتبجيل, لا يجدون وسيلة للتعبير عن عواطفهم إلاّ ما يفعلونه: والأعمال بالنيات. هاجر جدّي - وهو شاب - إلى القاهرة سعيًا للرزق; فلا عجب أن اختار لإقامته أقرب المساكن لجامعه المحبب. وهكذا استقر بمنزل للأوقاف قديم, يواجه ميضأة المسجد الخلفية, في الحارة التي كانت تسمى "حارة الميضة". [كانت] لأن معول مصلحة التنظيم الهدام أتى عليها فيما أتى عليه من معالم القاهرة. طاش المعول وسلمت للميدان روحه, إنما يوفق في المحو والإفناء حين تكون ضحاياه من حجارة وطوب! ثم فتح جدّي متجرًا للغلال في الميدان أيضًا. وهكذا عاشت الأسرة في ركاب "الستّ" وفي حماها: أعياد "الستّ" أعيادنا, ومواسمها مواسمنا, ومؤذن المسجد ساعتنا. اتسع المتجر وبورك لجدّي فيه - وهذا من كرامات أم هاشم - فما كاد يرى ابنه الأكبر يتم دراسته في الكتّاب حتى جذبه إلى تجارته ليستعين به. وأما ابنه الثاني فقد دخل الأزهر, واضطرب فيه سنوات وأخفق, ثم عاد لبلدتنا ليكون فقيهها ومأذونها. بقي الابن الأصغر - عمي إسماعيل آخر العنقود- يهيئه القدر واتساع رزق أبيه لمستقبل أبهى وأعطر. لعله خشي في مبدإ الأمر, عندما أجبره أبوه على حفظ القرآن أن يدفع به إلى الأزهر, لأنه يرى صبية الميدان تلاحق الفتية المعممين بهذا الهتاف البذيء: - شدّ العمة شدّ, تحت العمة قرد..... ولكن الشيخ رجب سلمه, بقلب مفعم بالآمال, إلى المدارس الأميرية, وعندئذ أعانته تربيته الدينية وأصله القروي, فسرعان ما امتاز بالأدب والاتزان وتوقير معلميه, مع حشمة وكبير صبر. إن حُرِم التأنق لم تفته النظافة. وهو فوق ذلك أكثر رجولة, وأقوم لسانًا, وأفصح نطقًا من زملائه "المدلعين" أولاد الأفندية المبتلين بالعجمة وعجز البيان, فما لبث أن بذّ الأقران وتلألأت على سيمائه نجابة لا تخطئُها العين, فتعلقت به آمال أسرته. أصبح, وهو لم يزل صبيًّا, لا ينادى إلاّ بـ"سي إسماعيل" أو إسماعيل أفندي, ولا يعامل إلاّ معاملة الرجال. له أطيب ما في الطعام والفاكهة. إذا جلس للمذاكرة خفت صوت الأب, وهو يتلو أوراده إلى همس يكاد يكون ذوب حنان مرتعش, ومشت الأم على أطراف أصابعها. حتى فاطمة النبوية - بنت عمه, اليتيمة أبًا وأمًّا - تعلمت كيف تكف عن ثرثرتها وتسكن أمامه في جلستها صامتة كأنها أمَة وهو سيدها. تعودت أن تسهر معه كأن الدرس درسها, تتطلع إليه بعينيها المريضتين المحمرتي الأجفان, وأصابعها تعمل في حركة متصلة لا تنقطع في بعض أشغال "التريكو". من ذا الذي يقول لإسماعيل: تنبه إلى هاتين اليدين كيف دبت فيهما خلسة حياة غريبة وحساسية يقظة, ولمس متعرّف? ألا تفهم ألا تفطن إلى أن دليل اقتراب عاهة العمى في السليم هو أن تبدأ يده في الإبصار? - قومي نامي يا فاطمة. - لسه بدري ما جاليش نوم. بين حين وآخر تحيل دمعة مترقرقة شخصه إلى شبح مبهم فتمسحها بطرف كمها وتعود إلى تطلعها. الحكمة عندها تتمثل في كلامه إذا نطق. يالله! كيف تحوي الكتب كل هذه الأسرار والألغاز? وكيف يقوى اللسان على الرطانة بلغة الأعاجم? وكلما كبر في نظرها انكمشت أمامه وتضاءلت. قد يعلق بصره بضفيرتيها فيتريث ويبتسم. هؤلاء الفتيات! لو يعلمن كم هي فارغة رؤوسهن! إذا أوى إلى فراشه فعندئذ, وعندئذ فحسب, تشعر الأسرة أن يومها قد انقضى, وتبدأ تفكر فيما يلزمه في الغد. كل حياتها وحركاتها وقف على توفير راحته. جيل يفني نفسه لينشأ فرد واحد من ذريته. محبة وصلت من قوتها إلى عنفوان الغريزة الحيوانية. الدجاجة القلقة ذات النظرة المتجسسة الحذرة ترقد على بيضها مشلولة الحركة ذليلة العين, كأنها راهبة تصلي. هل هي هبات من فيض كرم? أم جزية جبار مستبد, إرادته حديد, له في كل عنق طوق, وفي كل ساق قيد? تعلق هذه الأسرة بولدها تعلق مسلوب الحرية والإرادة! فأين بربك جماله? جواب هذا السؤال عند قلبي. فما من مرة تمثلت فيها هذه الأيام البعيدة إلاّ وجدته يخفق بذكراها, ويبدو لي وجه جدي الشيخ رجب وحواليه هالة من وضاءة ونور. أما جدتي - الست عديلة- بسذاجتها وطيبتها, فمن السخف أن يقال إنها من البشر, وإلاّ فكيف إذن تكون الملائكة?! ما أبشع الدنيا وأبغضها لو خلت من مثل تسليمها وإيمانها! 2 سنة بعد سنة وإسماعيل يفوز بالأولوية, فإذا أعلنت النتيجة دارت أكواب الشربات على الجيران, بل ربما شاركتهم المارة أيضًا, وزغردت "ما شاالله" بائعة الطعمية والبصارة, وفاز الأسطى حسن - الحلاق ودكتور الحي - بحُلوانه المعلوم, وأطلقت الست عديلة بخورها وقامت بوفاء نذرها لأم هاشم. فهذه الأرغفة تُعَدُّ وتملأ بالفول النابت وتخرج بها أم محمد تحملها في مَقْطَف على رأسها: ما تهل في الميدان حتى تختطف الأرغفة, ويختفي المقطف, وتطير ملاءتها, وترجع خجلة تتعثر في أذيالها غاضبة ضاحكة من جشع شحاذي السيدة, وتصير حادثتها فكاهة الأسرة بضعة أيام يتندرون بها. وكذلك نشأ إسماعيل في حراسة الله ثم أم هاشم. حياته لا تخرج عن الحي والميدان, أقصى نزهته أن يخرج إلى المنيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري. إذا أقبل المساء, وزالت حدة الشمس, وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام, أفَاقَ الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء. إذا أصختَ السمعَ وكنتَ نقي الضمير فطنت إلى تنفس خفي عميق يجوب الميدان لعله سيدي العتريس بواب الست - أليس اسمه من أسماء الخدم? - لعله في مقصورته ينفض يديه وثيابه من عمل النهار, ويجلس يتنفس الصعداء. فلو قُيِّضَ لك أن تسمع هذا الشهيق والزفير فانظُر عندئذ إلى القُبّة. لألاء من نور يطوف بها, يضعف ويقوي كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هذا هو قنديل أم هاشم المعلق فوق المقام. هيهات للجدران أن تحجب أضواءه. يمتلئ الميدان من جديد شيئًا فشيئًا. أشباح صفر الوجوه منهوكة القوى, ذابلة الأعين, يلبس كل منهم ما قدر عليه, أو إن شئت: فما وقعت عليه يده من شيء فهو لابسه. نداءات الباعة كلها نغم حزين. - حراتي يا فول. - حلّي وع النبي صلّي. - لوبية يا فجل لوبية. - المسواك سُنّة عن رسول الله. ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه? وما هذا العبء الذي يجثم على الصدور جميعها? ومع ذلك فعلى الوجوه كلها نوع من الرضا والقناعة. ما أسهل ما ينسون! تتناول أيد كثيرة قروشًا وملاليم قليلة. ليس هنا قانون ومعيار وسعر, بل عرف وخاطر وفصالٍ وزيادة في الكيل أو طبّة في الميزان. وقد يكون الكيل مدلسًا والميزان مغشوشًا, كله بالبركة. صفوف تستند إلى جدار الجامع جالسة على الأرض, وبعضهم يتوسد الرصيف. خليط من رجال ونساء وأطفال, لا تدري من أين جاءوا ولا كيف سيختفون, ثمار سقطت من شجرة الحياة فتعفنت في كنفها. هنا مدرسة الشحاذين. حامل كيس اللقم يثقل الحمل ظهره ينادي: - لقمة واحدة لله يا فاعلين الثواب, "جاعان". والشابة التي تنبت فجأة وسط الحارة عارية أو شبه عارية: - ياللي تكسي الولية يا مسلم, ربنا ما يفضح لك ولية! صوتها الصارخ يجذب الوجوه للنوافذ, وعيناها الساحرتان تستهويان المطلات, فتمطر عليها أكوام من الخرق ورث الثياب. في لحظة واحدة تذوب وتختفي, فلا تدري أطارت, أم ابتلعتها الأرض فغارت. وهذا بائع الدقة الأعمى الذي لا يبيعك إلاّ إذا بدأته السلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء. ينقضي النهار فيودّع "كرش" الطرشجي بقية براميله, وتترك أقدام الخراط عملها اليومي وأدواتها, لتعود بصاحبها إلى الدار. لا يزال الترام هنا وحشًا مفترسًا له في كل يوم ضحية غريرة. يتقدم المساء ينعشه نسيم ذو دلال. تسمع من القهاوي ضحكات غضة وأخرى غليظة "حشّاشي". وإذا دلفت من الميدان إلى مدخل شارع مراسينا سمعت ضجيج السكارى في خمارة أنسطاسي التي يلقبها أهل الحي بفكاهتهم خمارة "آنسْت". يخرج منها سكير هائج يتطوح ويتعرض للمارة: - ورّوني أجعص فتوة . - جتك لهوة يا بعيد. - سيبوه في حاله دا غلبان. - ربنا يتوب عليه. أشباح الميدان الحزينة المتعبة يحركها الآن نوع من البهجة والمرح, ليس في الدنيا همّ. والمستقبل بيد الله, تتقارب الوجوه بود, وينسى الوجيع شكايته. ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكتشينة وليكن ما يكون: تقل أصوات اصطدام كِفَف الموازين, وتختفي عربات اليد, وتطفأ الشموع داخل المشنّات, عندئذ تنتهي جولة إسماعيل في الميدان. هو خبير بكل ركن وشبر وحَجر, لا يفاجئه نداء بائع, ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها, فلا تجد في روحه أقل مجاوبة, لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات, وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح, لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب, والنفوذ إليه خفية, والاستقرار فيه, والرسوب في أعماقه, فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأي حياة. نظرة سليمة, كل عملها أن تبصر. 3 اقتربت المراهقة وأخذ جسده يفور, وكأنه مرغم, فهو فريسة ممزقة بين قوي دافعة وأخرى جاذبة. يهرب من الناس ويكاد يجن لوحدته. بدأ يشعر بلذة غريبة في أن يندس بين المترددات على المسجد, ولا سيما يوم الزيارة. في هذا الزحام كان معنى اللباس عنده أنه فواصل بين الأجسام العارية, يحس بها من صدمة هينة أو احتكاك وامض. في وسط هذه الأجسام كان يشعر بلذة المستحم في تيارٍ جار لا يبالى نقاء الماء. روائح العرق والعطر لا تكربه, بل يتشممها بخيشوم الكلاب. لا يخلو يوم الزيارة من بعض المومسات - فسيدي العتريس مأمور أن لا يصدّ أحدًا عن الساحة - يفدن لتقديم شمعة للمقام أو للوفاء بنذر, عسى الله أن يتوب عليهن, ويمحو ما على الجبين من مقدر مسطور. كان يراهن من قبل فلا يفطن إليهن, أما الآن فهو يتبعهن وتعلق نظرته بهن وتتريث. واختص بانتباهه فتاة تأتي كل يوم زيارة. سمراء جعدة الشعر, رقيقة الشفتين. هذه هي نعيمة. تمتاز عن زميلاتها بصمتها وقوامها الأهيف. الكلُّ يمشي مشية المتخاذل المنحل غير مكترث. أما هي, فكأنما تسير إلى غرض, مالكة كيانها وروحها. ذراعاها ممدودتان إلى جانبها, يواجهك باطن كوعها ولو دققت النظر لما وجدت من مومس إلاّ ذراعين مكسورتين من أثر السقوط, وإن كانت الثنية عندها سر الخلاعة! يبتسم إسماعيل عندما يرى الشيخ درديري - خادم المقام - وسطهن كالديك بين الدجاج. يعرفهن واحدة واحدة ويسأل عن الغائبات, يأخذ من هذه شمعتها, ويوسع لأخرى طريق صندوق النذور. يتبدل رضاه فجأة, فيزجرهن ويدفعهن دفعًا إلى الخارج. تأتي إليه أيضًا نسوة ورجال يسألونه شيئًا من زيت قنديل أم هاشم, لعلاج عيونهم أو عيون أعزائهم. يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان. فلا بصر مع فقد البصيرة. ومن لم يشْف فليس لهوان الزيت, بل لأن أم هاشم لم يسعها بعد أن تشمله برضاها. لعله عقاب آثامه, ولعله هو لم يتطهر بعد من الرجس والنجاسة, فيصبر وينتظر ويتردد على المقام. فإن كان الصبر أساس مجاهدة الدنيا, فإنه أيضًا الوسيلة الوحيدة للآخرة. في هذا الزيت مورد رزق متسع للشيخ درديري, ومع ذلك لا تظهر عليه آثار النعمة; فجلبابه القذر هو هو, وعمامته الغبراء هي هي. وماذا يفعل بنقوده?! هل يكنزها تحت بلاطة? يتهمه زملاؤه أنه يحرقها في الحشيش, بدليل سعاله الذي لا ينقطع وبدليل ما في طبعه من ميل "للقفش" والتنكيت. والحقيقة أنه مزواج لا يمر العام إلاّ ويبني ببكر جديدة. عرفه إسماعيل من تردده على المقام, واعتاد أن يمر عليه في أغلب الليالي بعد صلاة العشاء ليتندر بحديثه. ومال الرجل للفتى واختصه بحنانه, هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة على الإفضاء إليه بسر لم يفض به إلى أحد غيره: - تعرف يا سي إسماعيل ليلة الحضرة يجيء سيدنا الحسين, والإمام الشافعي, والإمام الليث. يحفون بالسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة والسيدة سكينة. وفي كوكبة من الخيل, ترفرف عليهم أعلام خضر, ويفوح من أردانهم المسك والورد, يأخذون أمكنتهم عن يمين الست وعن يسارها. وتنعقد محكمتهم وينظرون في ظلامات الناس. لو شاءوا لرفعوا المظالم جميعها ولكن الأوان لم يَئِنْ بعد. فما من مظلوم إلاّ وهو ظالم أيضًا, فكيف الاقتصاص له? في تلك الليلة, هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المقام, لا يكاد يشع له ضوء, ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار. إني ساعتها لا أطيق أن أرفع عيني إليه. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء - فمن أجل ذلك لا أعطيه إلاّ لمن أعلم أنه يستحقه من المنكسرين. كان إسماعيل غائب الذهن, يفكر في الفتاة السمراء التي تزم شفتيها. وانتبه إلى الشيخ درديري وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأت, وأدركت, واستقرت. يضفو ضوءُه الخافت على المقام, كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام في أحضانها. ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانًا, أو وقفات تسبيحها همسًا. يطفو فوق المقام كالحارس مبتعدًا تبجيلاً. أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطدامًا بين ظلام يجثم وضوء يدافع, إلاّ هذا القنديل. فإنه يضيء بغير صراع! لا شرق هنا ولا غرب. ما النهار هنا ولا الليل, لا أمس ولا غد. وانتفض إسماعيل, لا يدري ما هذا الذي مس قلبه! 4 ووافقت المراهقة سنة البكالوريا . وخرج إسماعيل من الامتحان وقلبه واجف مفعم بالشكوك. وأعلنت النتيجة فإذا به يفوز ولكن في ذيل الناجحين. لقد كان أمله ورجاء الأسرة كلها أن يدخل مدرسة الطب, فإذا بها تصده عن أبوابها. واقترب العام الجديد ولم يستقر على قرار. ليس أمامه إلاّ أن يدخل مدرسة المعلمين إن شاء, أو أن يدرس للبكالوريا من جديد, ويضيع سنة من عمره, وكلا الأمرين بغيض إلى نفسه. لم يكن الشيخ رجب بأقل من ابنه قلقًا وحيرة, ولكم توقع بعض معارفه أن يكتفي بتعليم ابنه إلى الحد الذي بلغه ويوظفه بالبكالوريا, إن لم يكن للمساعدة, فللتخفيف عنه. آه لو علموا كيف عقد الشيخ رجب نيته على أن يدفع بابنه إلى الصفوف الأولى!! يذهب هنا وهناك يسأل عن حل. لا أدري من الذي قال له: - لماذا لا ترسل ابنك إلى أوربا? بات الشيخ رجب ليلته يتقلب على جنبيه. علم أن هذا الحل سيكلفه من عشرة إلى خمسة عشر جنيهًا في الشهر, غير ما يلزم لابنه في أول الأمر من نفقات الطريق وثياب تقيه برد الشمال? أيفارق ابنه? وهل ترضى أمه? أم سيقف حنانها في سبيل مستقبل إسماعيل? وهل يقوي على دفع هذا المبلغ بانتظام كل شهر? إنه لو فعل لما بقي للأسرة كلها إلاّ ما تعيش به على الكفاف والشظف. وإلى متى? ست سنوات أو سبعًا, والزمان قاس يدور دورة عكس. كما سمع أذان العشاء سمع أذان الفجر, ثم أخذته غفوة هتف به خلالها صوت رقيق: - توكل على الله ... استيقظ من نومه وقد عقد عزمه. وفهمت الأم أن لا مهرب من الفراق, فرضيت صامتة وإن لم ينقطع بكاؤها. إلى أين? بلاد برة! كلمة لها رنين وسحر, تتسلل كروح مبهمة لا يطمئن لها, إلى المنزل الذي لا تنقطع فيه تلاوة القرآن, وحيث الشرع هو الحق والعلم جميعًا. وثوت هذه الروح في ركن صغير من الدار وغطت رأسها وتمطت. ونامت منتصرة قريرة العين. "بلاد بَرّه!" ينطق بها الأب كأنها إحسان من كافر لا مفر من قبوله لا عن ذلة, بل للتزود بنفس السلاح. أما الأم, فمنذ الآن تركبها رعدة المحيط وتأخذها رجفة البرد. تتصور (بلاد بره) في نهاية سلم عالٍ ينتهي إلى أرض تغطيها الثلوج, ويسكنها أقوام لهم حيل الجن وألاعيبهم. أما فاطمة النبوية فقلبها واجف تسمع أن نساء أوربا يسرن شبه عاريات وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء. فإذا سافر إسماعيل, فلا تدري كيف يعود إن عاد! وجمع الأب كل ما استطاع جمعه من مال, وباعت الأم حليها, واشتريت تذاكر السفر والملابس الثقيلة التي تقي من برد أوربا, واقترب موعد السفر وحل الوداع. واجتمعت الأسرة صامتة حزينة. قلوب خافقة, وعيون دامعة. وأنشأ الأب يقول لابنه: - وصيتي إليك أن تعيش في "بلاد برّه" كما عشت هنا, حريصًا على دينك وفرائضه, وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك, ونحن يا بني نريدك أن ترجع إلينا مفلحًا لتبيض وجوههنا أمام الناس. أنا رجل قد أوشكت على الكبر, وقد وضعت كل آمالنا فيك وإياك أن تغرك نساء أوربا, فهُنَّ لسنَ لكَ وأنتَ لستَ لهنَّ. ثم صمت الأبُ قليلاً وعاد يقول: - واعلم أن أمك وأنا قد اتفقنا على أن تنتظرك فاطمة النبوية, فأنت أَحقُّ بها وهي أحق بك. هي بنت عمك وليس لها غيرك. وإن شئت قرأنا الفاتحة معًا يومنا هذا, عسى أن يصحب سفرك البركة واليمن. لم يسعه إلاّ القبول. فوضع يده في يد أبيه, وقرأ الفاتحة, بينهما أم تبكي, وفتاة حيرى بين الأسى والفرح. كان إسماعيل يعلم أن هذه الفاتحة ستأتي في يوم, ولكنه لم يتوقعها في تلك الليلة. فلقد نشأ مع فاطمة النبوية أخوين, وقلما نظر إليها كما نظر إلى فتاته السمراء. قرأ الفاتحة وهو شارد اللب. إرضاء لأبيه, وقلبه يقول له: "احفظ عهدك!" فيجيبه: "لماذا? لماذا?!" كل هذه أشياء غامضة, لأنه حتى اليوم ما يزال طاهرًا عفيفًا, لم يقترب من امرأة. وإنه لكاذب - وإسماعيل لا يكذب - إذا أنكر أنه جوعان إلى فتاته السمراء, إلى النساء جميعًا, ولا سيما أخيرًا: إلى نساء أوربا. 5 وخرج إسماعيل يودع بعض أصدقائه, ثم انتهى إلى الميدان وقد اقترب الغروب. تتلقف آذانه ما أمكنها من نداءات الباعة التي ألفها, وخيل إليه أن في الميدان حركة غير التي عهد. كأن القوم أصبحوا أسرع مشية. ما لهم لا يلوون على شيء? أفليست الحياة إلاّ سباقًا? كم ودّ لو وقف واحد من المندفعين وبادله الحديث. لم يلتفت إليه أحد. في الميدان حركة النمل تتعارض وتتحاذي وتضرب في كل اتجاه. قادته قدماه إلى المقام, فوجده ساكنًا على غير عادته. الشيخ درديري واقف مطأطئ الرأس, كأنما هو متعب أو تسلط عليه خوف ورهبة. دار إسماعيل حول المقام, حتى إذا جاء للسور الذي يفصل مكان النساء عن الرجال, انتبه إلى شبح واقف وراءه. هي فتاته السمراء ألصقت جبينها على السور. سمِّر إسماعيل في مكانه وسمعها تقول هامسة: - يا أم هاشم: يا ستارة على الولايا, لا تغضي عينيك ولا تشيحي بوجهك. تمد إليك يد مسترحمة فخذيها. إن الله طهرك وصانك وأنزلك الروضة. وإن قلبك لرؤوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطمون, فمن غيرك يقصدون? إذا نسينا فاذكري أنت! متى يُمحى المقدر علي? أيرضيك أن جسدي ليس مني, فما أشعر بالألم وهو ينهشه نهشًا, ها هي روحي على عتباتك تتلوى وتتمرغ مصروعة. تريد أن تفيق, منذ غادرني رضا الله وأنا كالنائم يركبه الكابوس, يقبض في يد واحدة على الموت والحياة! رضيت لحكمه وأسلمت نفسي, ولن أضيع وأنت هنا معنا. أفيطول الأمد, أم رحمة الله قريب? نذرت لك يوم يتوب المولى عليّ أن أزين مقامك الطاهر بالشموع. خمسين شمعة, يا أم هاشم يا أخت الحسين! ووضعت الفتاة شفتيها على سور المقام. ليست هذه القبلة من تجارتها, بل من قلبها. ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة? هم إسماعيل أن يخرج من المسجد ليلحقها ويكلمها, فلم تتحرك قدماه. أراد أن يفضي لها بكل ما في نفسه, إن لحظة الانتزاع من الأسرة والوطن, لمواجهة الغربة والوحدة والمجهول تضني أعصابه وتهصر قلبه, لماذا يهتز لمرآها دون سائر النساء? أَواهم هو? إلاّ أن صوتًا خفيًّا يريد أن ينطق في قلبه ويتكلم ويرشده إلى السر, ولكن هناك ألف غطاء وغطاء تكتم هذا الصوت وتخفته, ولعل الفتاة لم تره ولم تشعر به. وهرب إسماعيل من حيرته إلى الشيخ درديري وحديثه الثرثار ينزل بلسمًا على فؤاده. وقفته في صمت أمام المقام وتحت ضوء القنديل, ويده معلقة بالسور تارة, ماسحة على وجهه تارة أخرى, هي آخر ما يذكره عن رحيله من القاهرة. فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه, كالتيار المندفع العنيف, يتأرجح فيه ملقى القياد, مقلوب الوضع, فقد خلاله الزمن ترتيبه, والمرئيات اعتدالها, والأصوات صدقها وفروقها. وداع الأسرة, وما أمره! في الدار وسط النحيب والبكاء, والمحطة, والقطار ثم الميناء وحركته والباخرة المجهولة وصفيرها. إني أتخيله صاعدًا سلم الباخرة شابًّا عليه وقار الشيوخ, بطيء الحركة, غرير النظرة, أكرش, ساذجًا, كل ما فيه ينبئ أنه قروي مستوحش في المدينة. أقسم لي عمي إسماعيل فيما بعد أنه كان يحمل في أمتعته قبقابًا, فقد سمع الشيخ رجب أن الوضوء في أوربا متعذر لاعتياد الناس لبس الأحذية في البيوت. كما وصف لي وهو يبتسم سراويله وطولها وعرضها وتكتها المحلاوي . وكان معه أيضًا سلة ملأى بالكعك و"المنين" من عمل أمه وفاطمة النبوية. وسافرت الباخرة.ومرّت سبع سنوات, وعادت الباخرة. من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة, المرفوع الرأس, المتألق الوجه, الذي يهبط سلم الباخرة قفزًا? هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله! هو الدكتور إسماعيل, المتخصص في طب العيون, والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر, والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له: - أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك, فهي بلد العميان. رأى فيه دراية كأنها ملهمة, وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة, ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمًى تكاد تحيا. أقبل يا إسماعيل, فإنّا إليك مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية, ثم المتراخية, لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث, وخذ مكانك في الأسرة, فستراها كالآلة وقفت بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه! كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري? لم يَنم إسماعيل ليلة الوصول إلاّ غرارًا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألاّ يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية لا يرى شيئًا على الأفق, ولكن خياشيمه تتشمم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل, أول من لقيه من وطنه, مخلوقٌ الكون كله وطنه, طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة, طليق متعال نظيف, وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكؤ عند الوصول, وما كان أسرعها عند الفراق? إنها تتهادى بدلال العودة, فما لها وللركاب وما يشعرون! كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه الشيخ مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق إليهم بموعد وصول قطاره للقاهرة, هذا هو الفنار المتمنطق, وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلاّ بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة, ولا على شاطئك جبال تصد, أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.. ها هو أول قارب يظهر, فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته, مقوس الظهر, أَقْعَى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد, جلبابه الأزرق, أو الذي كان أزرق, ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره, فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم: - مصر! مصر! كيف ينتبه لها الصياد, وهو لم ينتبه للباخرة كلها?! مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه, ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل. عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يومًا بعد يوم. هم إسماعيل أن ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب! ورنّ جرس إيذانًا بموت الباخرة, فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها. جنود وضباط, وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون, وحمالون وصيارفة وزوار. ثم اندلق الزحام والتدافع, وتعالت النداءات, وكثر العناق والتقبيل. وإسماعيل وسط التيار غير مغمور يلتقط بنهم كل ما يصل إليه. وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة. له أذن فارزة واعية, ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء, وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت, وشُدّ شدقاه في أخدودين, كانت شفتاه مرتخيتين, قلما تنطبقان, أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمارك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط, فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر. كم يبدو له هذا اليوم مترديًا في هوة من ماض بعيد. بعيد كالحلم.... كيف تقوى ذكرى هذا اليوم على البقاء بعد سبع سنوات قضاها في إنجلترا قلبت حياته رأسًا على عقب? كان عفًّا فغوى, صاحيًا فسكر, راقص الفتيات وفسق. هذا الهبوط يكافئه صعود لا يقل عنه جدة وطرافة. تعلم كيف يتذوق جمال الطبيعة ويتمتع بغروب الشمس - كأن لم يكن في وطنه غروب لا يقل عنه جمالاً - ويلتذ بلسعة برد الشمال. إن لم يكن له في هذه الفترة سوى "ماري" زميلته في الدراسة لكفى بها في نسيان ماضيه. لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فآثرته واحتضنته. عندما وهبته نفسها, كانت هي التي فضّت براءته العذراء, أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق, فتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال: في الفن, في الموسيقى, في الطبيعة, بل في الروح الإنسانية أيضًا. قال لها يومًا: - سأستريح عندما أضع لحياتي برنامجًا أسير عليه. فضحكت وأجابت: - يا عزيزي إسماعيل, الحياة ليست برنامجًا ثابتًا, بل مجادلة متجددة. يقول لها: "تعالي نجلس", فتقول له: "قم نسِر". يكلمها عن الزواج, فتكلمه عن الحب. يحدثها عن المستقبل, فتحدثه عن حاضر اللحظة. كان من قبل يبحث دائمًا خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته, وتربيته وأصولها, هي منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين. أما هي, فكانت تقول له: "إن من يلجأ إلى المشجب, يظل طول عمره أسيرًا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك في نفسك". إن أخشى ما تخشاه هي: القيود. وأخشى ما يخشاه هو: الحرية. كانت هبتها له في مبدإ الأمر محل حيرته, فكانت حيرته محل سخريتها. كان يتجافى الناس ويقدر احتمالات وُدِّهم, ويهتم كيف يكون حكمهم عليه, وإذا لقي من تريحه المجاملة لا يجد بأسًا في