سرد - قصص و روايات
عنوان
الدرس: اليهودي . اضيف بواسطة : إيفان تورجينيف . بتاريخ:
2005-06-22.
احك لنا شيئا يا سيادة العقيد . قلنا فى النهاية لنيكولاى إليتش .
ابتسم العقيد وأطلق دفقة دخان من بين شواربه ، ومر بيده على شعره الأشيب ثم سرح
ببصره نحونا . كنا نحب نيكولاى إليتش ، ونحترمه كثيرا لطيبته وحكمته ، ورفقه
بإخواننا الشباب . كان طويل القامة ، عريض الكتفين ممتلئ ، ووجهه الأسمر "
واحد من أجمل الوجوه الروسية "** ، وصراحته ونظرته الذكية وابتسامته الخاطفة
وصوته الجهورى المفعم بالرجولة ـ كل شئ فيه كان يجذبنا ويثير إعجابنا . ـ هه ،
اسمعوا ـ بدأ كلامه ـ الحكاية كانت فى عام 1813م بضواحى دانتسيج*** . آنذاك كنتُ
أخدم فى أحد أفواج سلاح الفرسان ذى المهمات الصعبة ، وأذكر أننى كنتُ قد رُقِّيت
لِتَوِّى إلى رتبة حامل علم . وكان العمل المُسَلِّى ـ المعارك والحملات ـ شيئا
جيدا ، إلا إن الوضع كان مضجرا للغاية فى فيلق الحصار حيث تجلس طوال النهار ، كما
كان يحدث ، فى وهدة ما قرب الخيمة على القاذورات أو القش وتلعـب الورق من الصباح
إلى المساء . وربما من شدة الملل تذهب لترى كيف تُدَوِّم القنابل والقذائف
المتوهجة . فى البداية كان الفرنسيون يسلوننا بهجماتهم وتحرشاتهم التى ما لبثت أن
خمدت ، كما أن الذهاب لجمع الطعام للجنود قد أصابنا أيضا بالسأم . باختصار ، فقد
هبتْ علينا الكآبة هكذا مثل الإعصار . وقتها كان عامى التاسع عشر قد انقضى لتوه ،
وكنتُ صبيا يافعا مفعما بالحيوية . فكرتُ أن أتسلى على أحد الفرنسيين ، أو على …
هه أتفهمون … ولكن هذا ما حدث … من شدة الفراغ نزلتُ لألعب الورق . وفى مرة من
المرات ، بعد خسارة فظيعة ، أصابنى الحظ . وقرب الصباح ( كنا نلعب ليلا ) كنتُ قد
ربحـتُ كثيرا . خرجتُ متعبا ونعسانا إلى الهواء الطلق ، وجلستُ على المتراس
الترابى . كان الصباح جميلا وهادئا ، وقد اختفت خطوط تحصيناتنا الطويلة فى الضباب
، فرُحْتُ أستمتع بالمنظر حتى نمتُ فى جلستى .
أيقظنى سعال حَذِر ، فتحتُ عينيىَّ ، رأيتُ أمامى اليهودى البالغ من العمر حوالى
الأربعين فى رداء رمادى طويل الأطراف ، وحذاء وطاقية سوداء . كنا نبعث بهذا
اليهودى المدعو جيرشيل ، كلما تسلل الملل إلى معسكرنا ، إلى المعمل ليحضر لنا
نبيذا ومؤونة وأشياء أخرى تافهة . كان قصير القامة رفيعا ، مجدورا أخمر الوجه ،
يرمش قليلا وبشكل مستمر ، وحتى عيناه الحمراوان كانت تطرفان ، ولديه أنف معقوف طويل
، وكان دائم التنحنح …
بدأ بالدوران أمامى ، ثم انحنى بشكل مهين .
ـ هه ، ماذا تريد ؟ سألته فى النهاية .
ـ
جئتُ لأعرف هل يمكننى تقديم خدمة ما لنبالتكم …
ـ
لستُ فى حاجة إليك ، اغرب .
ـ
كما تأمرون ، كما تشاؤون . إننى تصورتُ أنه يمكننى تقديم خدمة ما …
ـ لقد أزعجتنى . اغرب ، قلتُ لك .
ـ
حسنا ، حسنا . ولكن اسمحوا لى بتهنئة نبالتكم بالربح …
ـ ومن أين عرفت ؟
ـ وكيف لا أعرف … المكسب كبير … كبير … أوه ! كم هو كبير …
فَرَدَ جيرشيل أصابعه وهز رأسه .
ـ الأمر سيان ـ قلتُ بضيق ـ ما فائدة المال هنا لأى شيطان ؟
ـ أوه ! لا تتحدثوا هكذا نبالتكم . آى … آى … لا تقولوا ذلك . المال ـ شئ جيد ،
ضرورى دائما ، كل شئ يمكن الحصول عليه بالمال ، كل شئ نبالتكم ! كل شئ ! فقط
مُرُوا السمسار وسوف يحضر لكم كل شئ ، كل شئ نبالتكم ! كل شئ !
ـ كفى أكاذيب أيها اليهودى .
ـ آى ! آى ! ـ كرر جيرشيل نافضا لحيته وسوالفه ـ نبالته لا يصدقنــى … آى … آى …
آى … ـ أغمض عينيه وراح يهز رأسه يمينا ويسارا ببطء ـ ولكنى أعرف ما يلزم للسيد
الضابط .. أعرف .. الآن أعرف !
اتخذ اليهودى مظهرا شديد الاحتيال .
ـ حقا ؟
طَرَفَ اليهودى فى جبن ، ثم مال نحوى .
ـ
يالها من جميلة ، نبالتكم ، يالها ! .. ـ أغمض جيرشيل عينيه ثانية ومط شفتيه ـ
نبالتكم ، مُرُونى … سترون بأنفسكم … الآن سأتحدث ، وستستمعون أنتم … لن تصدقوا ،
ولكن من الأفضل أن تأمرونى لأريكم … هكذا … هه هكذا !
صَمَتُّ ورحتُ أطالع اليهودى .
ـ
هه ، هذا حسن . هه ، جيد . هه ، ها أنا أريكم … ـ انفجر هذا الجيرشيل بالضحك ،
وربتَ على كتفى بهدوء ، وما لبث أن وثب كالملسوع .
ـ
وماذا بعد ، نبالتكم ، العربون ؟
ـ
ولكن ربما تخدعنى ، أو تأتينى بحيوان محنط .
ـ
آى ، فاى ، ما الذى تقولونه ؟ ـ ردد اليهودى بحرارة غريبة مشوِّحا بيديه ـ كيف
يمكـن ذلك ؟ ما عساكم ، نبالتكم ، مُرُوا بضربى خمسمائة … أربعمائة وخمسون عصا ـ
وأضاف على عجل …
ـ
فقط مُرُونى …
فى
هذا الوقت رفع أحد رفاقى طرف الخيمة ونادانى باسمى . نهضتُ مستعجلا وألقيتُ
لليهودى ورقة من فئة العشرة روبلات ، بينما راح هو يتمتم فى أثرى :
ـ ضابط
، ضابط أعترف لكم ، يا سادة ، بأننى ظللتُ أنتظر حلول المساء بفارغ الصبر . فى هذا
اليوم نفسه قام الفرنسيون بهجمة ، ورد رتلنا بأخرى . وجاء المساء . تحلَّقنا جميعا
حول النيران ، طبخ الجنود عصيدة ، ودارت الأحاديث الفارغة . استلقيتُ على المعطف ،
شربتُ شايا ، واستمعتُ إلى حكايات الرفاق . دعونى إلى لعب الورق ، فرفضت . كنتُ فى
حالة قلق . راح الضباط ينصرفون بالتدريج إلى خيامهم ، وأخذت النيران فى الخمود .
الجنود أيضا تفرقوا أو ناموا فى أماكنهم ، وهدأ كل شئ . لم أنهض ، وكان جندى
المراسلة جالسا على معطف أمام النيران كما لو كان يصطاد سمكا ، فطردته وما لبث أن
هدأ المعسكـر تماما . مر الحرس الليلى ، وبدَّلوا النوبة . كنتُ طوال الوقت
مستلقيا فى انتظار شئ ما .
ظهرت النجوم . وخيَّم الليل . رحتُ أحدِّق طويلا فى النيران التى تكاد تخبو ، إلى
أن خمدت فى النهاية آخر شعلة . " لقد خدعنى اليهودى الملعون " ـ فكرتُ
بغيظ وأردتُ الصعود .
ـ نبالتكم … ـ تلعثم فى أذنى صوت متوتر مرعوب .
حدَّقتُ : جيرشيل . كان ممتقعا ، يتهته ويهمس .
ـ تفضلوا فى خيمتكم .
نهضتُ وسرتُ وراءه . انكمش اليهودى على نفسه وانطلق فى حرص على الأعشاب الرمادية
القصيرة . لمحتُ فى الطرف البعيد شخصا ملفوفا ساكنا . أشار لها اليهودى بيده ،
فاقتربتْ منه . تهامس معها ثم توجه نحوى . أومأ برأسه عدة مرات ، ودخل ثلاثتنا إلى
الخيمة ومن المضحك القول بأننى كنتُ ألهث .
ـ ها هى ، نبالتكم ـ همس اليهودى جاهدا ـ ها هى . إنها خائفة نوعا ما ، خائفة .
ولكننى قلتُ لها بأن السيد الضابط إنسان جيد ، رائع … فلا تخافى ـ وتابع كلامه ـ
لا تخافى …
لم يتحرك الشخص الملفوف ، وكنتُ أنا نفسى فى حالة ارتباك فظيعة ، ولا أدرى ماذا
أقول . راوح جيرشيل أيضا فى مكانه ، ثم حرك يديه على نحو غريب …
قلتُ له :
ـ ومع ذلك هيا اخرج …
امتثل جيرشيل فى تثاقل .اقتربتُ من الشخص الملفوف ، رفعتُ من فوق رأسها القلنسوة
بهدوء . فى دانتسيج كان كل شئ يشتعل : وفى حمرة واندفاع حريق بعيد ، فى لمعانه
الواهن رأيتُ وجها ممتقعا ليهودية شابة . أذهلنى جمالها ، وقفتُ أمامها ورحتُ أنظر
إليها صامتا . لم ترفع عينيها . حملتنى خشخشة خفيفة على النظر : جيرشيل يطل برأسه
من تحت الخيمة . أشحتُ له بغيظ ، فاختفى .
ـ ما اسمك ؟ ـ نطقتُ فى النهاية .
ـ سارا ـ أجابتْ ، وفى تلك اللحظة ومض فى الظلام حَوَرُ عينيها الواسعتين
المسحوبتين ، وأسنانها الصغيرة ، المتساوية ، اللامعة .
اختطفتُ وسادتين جلديتين وألقيتُ بهما على الأرض . دعوتها للجلوس ، فخلعت معطفهـا
وجلست . كانت ترتدى سترة قصيرة مفتوحة من الأمام ، عليها أزرار فضية مستديرة
مختلفة ، بأكمام واسعة ، وقد التفتْ ضفيرتها السوداء الضخمة حول رأسها الصغير
مرتين . جلستُ بالقرب منها ، تناولتُ يدها السمراء الصغيرة . مانعتْ قليلا وكأنها
تخشى التطلع نحوى ، وراحت تتنفس فى توتر وارتباك . أنعمتُ النظر إلى جانب وجهها ذى
الملامح الشرقية ، وضغطتُ بوجل على أصابعها المختلجة الباردة .
ـ أ يمكنك التحدث بالروسية ؟
ـ يمكننى … قليلا .
ـ أ تحبين الروس ؟
ـ نعم ، أحبهم .
ـ معنى ذلك أنك تحبيننى أيضا ؟
ـ أحبكم .
واتتنى رغبة فى معانقتها ، ولكنها تراجعت برشاقة …
ـ لا ، لا ، أرجوكم يا سيد ، من فضلكم …
ـ هه ، انظرى إلىَّ على الأقل .
ثبتتْ عينيها السوداوين الرائعتين على وجهى ، وما لبثت أن تحولت إلى الناحية
الأخرى مبتسمة ، ووجهها يكاد يتضرج .
قَبَّلتُ يدها فى حرارة . نظرتْ إلىَّ مقطِّبة ثم انفجرت ضاحكة فى هدوء .
ـ لماذا تضحكين ؟
غطتْ وجهها بيديها وتعالت ضحكاتها . ظهر جيرشيل عند باب الخيمة مهددا إياها ،
فصمتتْ .
ـ اغرب من هنا ! ـ همستُ إليه من بين أسنانى ـ لقد أضجرتنى .
لم يخرج جيرشيل . تناولت حفنة أوراق من فئة العشرة روبلات من الحقيبة ودسستها فى
يده ، ثم دفعته إلى الخارج .
ـ أعطنى أيضا يا سيد … ـ أخذتْ تردد .
قذفتُ إليها بضع ورقات على ركبتيها ، فالتقطتها برشاقة مثل القطة .
ـ هه ، والآن سوف أقَبِّلك .
ـ لا ، من فضلكم ، أرجوكم ـ تمتمت بصوت واجف متوسل .
ـ مما تخافين ؟
ـ خائفة .
ـ كفى …
ـ لا ، أرجوكم .
نظرتْ نحوى فى وجل ، وأمالتْ رأسها قليلا على كتفها ثم شبَّكتْ يديها . تركتها
وشأنها .
ـ إذا كنتَ تريد … هيا ـ قالت بعد فترة صمت قصيرة ، وقرَّبتْ يدها من شفتىَّ .
قبلتها بدون رغبة شديدة . وراحت سارا تضحك مرة أخرى .
تصاعدت الدماء إلى رأسى ، حنقتُ على نفسى ولم أدر ماذا أفعل . إلا إننى فكرتُ فى
النهاية ، أى غبى أنا ؟ وتوجهتُ نحوها مرة أخرى .
ـ سارا ، اسمعى ، أنا مغرم بك .
ـ أعرف .
ـ تعرفين ؟ ألا تشفقين ؟ وأنتِ نفسك تحبيننى ؟
هزتْ سارا رأسها .
ـ لا ، أجيبينى كما ينبغى .
فقالت :
ـ دعنى أراك .
مِلْتُ نحوها . وضعتْ يديها على كتفى . راحت تنظر فى وجهى ، قطبتْ قليلا ثم
ابتسمتْ … لم أتماسك ، طبعتُ قبلة سريعة على خدها . انتفضتْ ، وبقفزة واحدة كانت
عند باب الخيمة .
ـ هه ، أية متوحشة أنت !
صمتتْ ولم تتحرك من مكانها .
ـ تعالِ هنا إلىَّ …
ـ لا ، يا سيد ، وداعا . إلى المرة القادمة .
مد جيرشيل رأسه الأجعد ثانية وهمس لها بكلمتين ، فانحنت وانسلت كالأفعى .
انطلقتُ من الخيمة فى أثرها ، لكننى لم أرها ، أو أرى جيرشيل .
لم أستطع النوم طوال الليل .
فى الصباح التالى جلسنا فى خيمة المقدم ، ورحتُ ألعب بدون رغبة . دخل جندى
المراسلة .
ـ يسألون عنكم ، نبالتكم .
ـ من ؟
ـ اليهودى .
أ من المعقول أن يكون جيرشيل ! " ـ فكرتُ وانتظرتُ حتى انتهى الدور ثم نهضتُ
خارجا . وبالفعل رأيتُ جيرشيل .
ـ ماذا ـ سألنى بابتسامة وديعة ـ نبالتكم مبسوطون ؟
ـ آخ ، أنت ! .. ( آنئذ تلفَّتَ العقيد حوله على الرغم من عدم وجود نساء ) ، هل
تسخر منى يا عزيزى ؟
ـ ماذا ؟
ـ أى ماذا ، وتسأل أيضا ؟
ـ آى ، آى ، يا سيدى الضابط ، ما عساكم ـ رد جيرشيل بعتاب ، ولكن دون أن يكف عن
الابتسام ـ الفتاة شابة ، خجولة … لقد أرهبتموها … حقيقة أرهبتموها .
ـ الخجل شئ جيد ! إذن فلماذا أخذتْ النقود ؟
ـ وكيف ذلك ؟ يعطون نقودا فلماذا لا نأخذ …
ـ اسمع ، جيرشيل ، دعها تأتى ثانية ، وسوف أكرمك … فقط أرجو ألا تظهر بسحنتك
الغبية فى خيمتى ، دعنا وشأننا ، أ تسمع ؟
ـ ماذا ؟ أ تعجبكم ؟
ـ هه ، نعم .
ـ جميلة ! لا يوجد مثلها أبدا . هلا أعطيتنى الآن نقودا من فضلك ؟
ـ خذ ، ولكن اسمع ـ ما أوله شرط آخره نور . أحضرها ثم اذهب إلى الشيطان . وسوف
أوصِّلها أنا إلى البيت .
ـ ممنوع ، ممنوع ، مستحيل ـ اعترض اليهودى فى عجلة ـ آى ، آى ، مستحيل . من الأفضل
أن أتمشى بالقرب من الخيمة نبالتكم ، أنا ، أنا نبالتكم ، من الأفضل أن أبتعد
قليلا … أنا ، نبالتكم ، على استعداد لخدمتكم ، نعم من الأفضل أن أبتعد … ما عساكم
؟ سأبتعد .
ـ حذارى … أحضرها ، أ تسمع ؟
ـ ولكن أ ليست رائعة ؟ هه ، يا سيدى الضابط ؟ نبالتكم ؟ رائعة ؟ هه ؟
مال جيرشيل وحدَّق فى عينيىَّ .
ـ حسنا .
ـ هه ، ولكن اعطنى ورقة بزيادة …
ألقيتُ إليه بورقة وافترقنا .
أخيرا انقضى النهار ، وحل الليل . جلستُ ، طويلا ، فى خيمتى وحيدا . فى الخارج لم
يكن هناك شئ واضح ، والساعة قد دقت الثانية فى المدينة . رحتُ أسب اليهودى … وفجأة
دخلتْ سارا بمفردها . قفزتُ واحتضنتها … لمستُ وجهها بشفتىَّ … كانت باردة كالثلج
، استطعتُ بالكاد تبيُّن ملامحها … أجلستها وركعتُ فى مواجهتها ، تناولتُ يدها ،
مسستُ خصرها … لم تتفوه ، أو تتحرك . فجأة ، وبصوت عال أخذتْ تنهنه مرتعدة .
حاولتُ تهدئتها دون جدوى … كانت تبكى بحرقة … لاطفتُها وجففتُ دموعها ، لم تقاوم ،
ولم ترد على أسئلتى ، ولكنها بكتْ ، وبكت بغزارة . تفصَّد قلبى . نهضتُ وخرجتُ من
الخيمة .
ظهر جيرشيل بشكل مفاجئ وكأن الأرض انشقت عنه .
قلتُ :
ـ جيرشيل ، ها هى النقود التى وعدتك بها . خذ سارا .
اندفع اليهودى نحوها ، فكفت عن البكاء وتعلَّقت به .
ـ وداعا سارا ـ قلتُ لها ـ الله معك . سنلتقى فى وقت ما ، فى وقت آخر .
صمتَ جيرشيل وانحنى . مالتْ سارا ، تناولتْ يدى وضمتها إلى شفتيها ، فاستدرتُ …
ظللتُ طوال خمسة أو ستة أيام ، يا سادة ، أفكر فى اليهودية . أما جيرشيل فلم يظهر
، ولم يره أحد فى المعسكر . صرتُ أنام فى الليل بشكل سئ للغاية : تراءت لى العيون
السوداء المبللة والرموش الطويلة ، ولم تنس شفتاى لمسة خدودها الناعمة ، النضرة
مثل قشرة البرقوق . أرسلونى مع فصيلتى لجلب الطعام من قرية نائية . وبينما راح
جنودى يفتشون فى البيوت ، ظللتُ أنا فى الشارع ولم أنزل من فوق ظهر حصانى . فجأة
تشبث أحد ما بقدمى …
ـ يا إلهى ، سارا !
كانتْ ممتقعة ومرتبكة .
ـ سيدى الضابط ، سيدى … ساعدونى ، أنقذونى : الجنود يهينوننا … سيدى الضابط …
تعرَّفتْ علىَّ ، فتوردت ملامحها .
ـ هل تعيشين هنا ؟
ـ هنا .
ـ أين ؟
أشارت لى سارا نحو بيت صغير عتيق . همزتُ للحصان ، فانطلق يعدو . على باب البيت
كانت هناك يهودية دميمة مشعثة تحاول انتزاع ثلاث دجاجات وأوزة من يدى الملازم
الطويل سليافكا الذى كان يرفع غنيمته إلى أعلى ويضحك ، والدجاجات تقاقى والأوزة
تزعق ، بينما كان هناك محاربان آخران قد حمَّلا حصانيهما بالدريس والتبن وأجولة
الطحين . ومن نفس البيت تصاعدت هتافات الروس الصغار وسبابهم … صحتُ فى جنودى
وأمرتهم بأن يدعوا اليهود وشأنهم ، وألا يأخذوا من عندم شيئا . امتثل الجنود للأمر
، وامتطى الملازم فَرَسَتَه الكميت بروزيربينا ، أو كما دعاها " بروجيربيللا
" ، وخرج ورائى إلى الشارع .
قلتُ لسارا :
ـ هه ، ماذا ؟ مبسوطة ؟
نظرتْ إلىَّ بابتسامة .
ـ أين اختفيتِ طوال هذه الفترة ؟
خفضتْ عينيها .
ـ سأحضر إليكم غدا .
ـ مساء ؟
ـ لا ، يا سيدى ، فى الصباح .
ـ هه ، حذارى أن تخدعينى .
ـ لا ، لا ، لن أخدعك .
كنتُ أتأملها بنهم . وقد بدتْ لى فى ضوء النهار أكثر روعة وجمالا . وأذكر أن ما
أفعمنى بالذات هو لون وجهها الكهرمانى الأربد ، وشعرها الأسود الضارب إلى الزرقة …
انحنيتُ من فوق الحصان وضغطتُ على يدها الصغيرة بقوة .
ـ وداعا ، سارا … أرجو أن تأتى .
ـ سآتى .
ذهبتْ إلى البيت ، بينما أمرتُ الملازم أن يتبعنى مع المجموعة ورحتُ أركض .
استيقظتُ فى اليوم التالى مبكرا . ارتديتُ ملابسى وخرجتُ من الخيمة . كان الصباح
ساحرا : الشمس قد طلعتْ لتوها ، والحشائش تلمع بلون أرجوانى مُنَدَّى . صعدتُ إلى
متراس الخندق وجلستُ على قمة الكوَّة ، وخلفى يقبع مدفع ضخم زهرى اللون قد وجَّه
فوهته المعتمة نحو الساحة . رحتُ أتلفتُ مشتتا فى كل الاتجاهات … وفجأة لمحتُ ،
على بعد ما يقرب من مائة خطوة ، جسدا مسرعا فى رداء رمادى طويل الأطراف . عرفتُ
فيه جيرشيل . توقف طويلا دون حراك فى مكان واحد . بعد ذلك ركض جانبا لمسافة قصيرة
. راح يتلفَّت حوله بعجلة وخوف … أطلق صيحة ، وجلس . مد رقبته وأخذ يتلفَّت مرة
أخرى ، ويتنصَّت . كنتُ أرى جميع حركاته بوضوح . مد يده فى عُبِّه وأخرج قطعة ورق
وقلما وراح يكتب أو يرسم شيئا ما . كان جيرشيل يتوقف باستمرار ويجفل مثل الأرنب ،
ثم يطالع بانتباه نحو الضاحية كما لو كان يرسم معسكرنا . أخفى الورقة أكثر من مرة
، ضَيَّقَ عينيه ، تشمم الهواء ، ثم تابع عمله ثانية . وفى النهاية جلس اليهودى
فوق العشب . خلع حذاءه ودَسَّ الورقة بداخله . ولكنه لم يكد ينتصب ، وإذا فجأة
وعلى بُعْدِ عشر خطوات منه يظهر من وراء منحدر المتراس رأس الملازم ذو الشوارب
الكثة . راح جسد سليافكا الطويل الأخرق يرتفع شيئا فشيئا حتى برز كله ، بينما
اليهودى معطيا إياه ظهره . اقترب منه سليافكا حثيثا ووضع يده الثقيلة على كتفه .
تلوَّى جيرشيل ، وأخذ يتطاوح كالورقة ثم أطلق صرخة مؤلمة مثل الأرنب . تحدث إليه
سليافكا بشراسة وجذبه من تلابيبه . لم أكن أسمع شيئا من حديثهما ، ولكن من حركات
اليهودى اليائسة ، وملامحه المتوسلة ، بدأتُ أُحَزِّر الأمر . ارتمى اليهودى على
قدم الملازم مرتين ، وضع يده فى جيبه ، أخرج منديلا ممزقا ذا رسوما مربعة ، فك
عقدته ، تناول ورقة من فئة العشرة روبلات … أخذ سليافكا الهدية فى شموخ ، ولم يكُف
عن جر اليهودى من ياقته . تملَّصَ جيرشيل من يده واندفع جانبا . انطلق الملازم
خلفه متعقبا . أخذ اليهودى يركض بخفة وقدماه فى الجوارب الزرقاء تعدوان بسرعة
شديدة . ولكن سليافكا بعد خطوتين أو ثلاث تمكَّن من القبض على اليهودى المقرفص ،
ورفعه ثم حمله مباشرة إلى المعسكر . نهضتُ ، وترجَّلتُ لألتقيه فى منتصف المسافة .
ـ آ ! .. نبالتكم ! … ـ صاح سليافكا ـ إننى أحمل إليكم كشَّافا ، كشَّافا ! ـ كان
العرق يتصبب من الروسى الشاب قوى البنية ـ كفاك تلوِّى ، يهودى شيطان ! هه .. هه
ماذا ! هه ، وإلا فعصتك !
كان اليهودى المسكين يعافر بكوعيه فى صدر سليافكا ، ويرفس بقدميه … وعيناه
مفتوحتان فى تشنج …
سألتُ سليافكا :
ـ ما هذا ؟
ـ ها هو ذا ، نبالتكم : تفضلوا بنزع الحذاء من قدمه اليمنى ، فذلك صعب بالنسبة لى
ـ كان لا يزال يحمل اليهودى بين يديه .
انتزعتُ الحذاء ، سحبتُ الورقة المطوية ، فتحتها ورأيتُ رسما تفصيليا لمعسكرنا .
وكانت هناك ملاحظات كثيرة على الساحات والميادين كُتِبَتْ بخط دقيق بالعبرية .
أوقف سليافكا اليهودى بعد ذلك على قدميه . فتح اليهودى عينيه ، رآنى ، فانهار
أمامى على ركبتيه .
عرضتُ عليه الورقة فى صمت .
ـ ما هذا ؟
ـ هذا : لا شئ ، سيدى الضابط . هذا ببساطة لا شئ … ـ وانقطع صوته .
ـ أنت كشَّاف ؟
لم يفهمنى . تمتم بكلمات غير مترابطة ، ومس ركبتى فى هلع …
ـ أنت جاسوس ؟
صاح محركا رأسه فى ضعف :
ـ آى ، كيف يمكن ؟ أنا … أبدا … أنا … مستحيل . لا يمكن … من غير الممكن . أنا
مستعد . أنا ، الآن ، سأعطى نقودا ، سأدفع ـ غمز وأغمض عينيه .
انزاحت الطاقية على قفاه ، وتهدل شعره الأحمر فى خصلات مبللة بالعرق البارد ،
وازرقَّت شفتاه واعوجَّتا فى تشنج ، وتقلَّص حاجباه فى ألم ، وغارت وجنتاه …
احتشد الجنود حولنا . فى البداية أردتُ إفزاع جيرشيل كما ينبغى ، فأمرتُ سليافكا
بالصمت . ولكن الآن صار الأمر على مرأى من الجميع ومن غير الممكن عدم " إحاطة
الرئاسة " .
قلتُ للملازم :
ـ خذه إلى الجنرال .
انطلق صوت اليهودى صارخا فى يأس :
ـ سيدى الضابط ، نبالتكم ! أنا غير مذنب ، غير مذنب … مُرُوهم بإطلاق سراحى ،
مُرُوهم …
ردد سليافكا :
ـ ها هو صاحب السعادة ، سوف يفصل فى الأمر … لنذهب .
صرخ اليهودى فى أثرى :
ـ نبالتكم ! .. مُرُوهم ! اعفوا عنى !
آلمنى صراخه ، فضاعفتُ من خطواتى .
كان جنرالنا من أصل ألمانى ، شريف وطيب ، ولكنه منفذ صارم للقواعد العسكرية .
دخلتُ إلى بنايته الصغيرة التى بُنِيَت منذ فترة غير بعيدة . بكلمات قليلة أوضحتُ
له سبب زيارتى . كنتُ أعرف صرامة القوانين العسكرية ، ولذا لم أتفوه حتى بكلمة
" كشَّاف " ، وحاولتُ تصوير الأمر كله بشكل بسيط وهَيِّن ، وأنه ليس
هناك ما يستحق الاهتمام . ومن سوء حظ جيرشيل أن الجنرال كان يضع القيام بالواجب فى
مرتبة أعلى من الشفقة .
ـ أنتم شباب ـ قال لى ـ ولستم خبيرا فى ماهية تلك الأمور . أنتم بعد غير محنكين فى
جوهر العمل العسكرى . الأمر الذى ( كان الجنرال يحب كثيرا كلمة " الذى "
) قدمتم به تقريرا يعتبر هاما ، وخطيرا للغاية … ولكن أين هذا الشخص الذى قُبِضَ
عليه ؟ ذلك اليهودى ؟ أين هو ؟
خرجتُ من الخيمة وأمرتُ بإحضار اليهودى .
جاؤا باليهودى . وكان المسكين يقف على قدميه بالكاد .
تمتم الجنرال متوجها إلىَّ :
ـ نعم ، أين المُخَطَط الذى عُثِرَ عليه مع هذا الشخص ؟
ناولته الورقة . فتحها الجنرال ، تراجع إلى الوراء ، ضَيَّقَ عينيه وقطَّبَ حاجبيه
.
ـ هذا مُـ .. ذْ .. هـِ .. ل ـ ردد بفترات صمت ـ من الذى قبض عليه ؟
قعقع سليافكا فى حدة :
ـ أنا ، سعادتكم .
ـ آ ! .. حسنا ! حسنا ! هه ، يا عزيزى ، ماذا يمكنك أن تقول فى دفاعك ؟
ـ وا .. وا .. سعادتكم ـ تمتم جيرشيل ـ أنا .. اصفحوا عنى .. سعادتكم .. غير مذنب
.. سلوا سعادتكم السيد الضابط .. أنا سمسار ، سعادتكم ، سمسار شريف .
ردد الجنرال بصوت خافت ، وهز رأسه فى خطورة :
ـ ينبغى التحقيق معه ، ولكن كيف ذلك يا أخينا ؟
ـ غير مذنب ، سعادتكم ، غير مذنب .
ـ أنت الذى رسمت المخطط ؟ أنت جاسوس معاد ؟
صرخ جيرشيل فجأة :
ـ لستُ أنا ! لستُ أنا ، سعادتكم !
نظر الجنرال إلى سليافكا .
ـ إنه يكذب ، يا صاحب السعادة . السيد الضابط أخرج بنفسه الوثيقة من الحذاء .
نظر الجنرال نحوى ، وكنتُ مجبرا على هز رأسى .
ـ أنت يا حبيبى … كشَّاف معاد … يا حبيبى …
قال اليهودى اليائس فى همس :
ـ لستُ أنا … لستُ أنا …
ـ هل قدمت قبل ذلك مثل هذه المعلومات التفصيلية للعدو ؟ اعترف …
ـ كيف يمكن !
ـ أنت يا عزيزى ، لن تخدعنى . أنت كشَّاف ؟
أغمض اليهودى عينيه ، ثم هز رأسه ورفع أطراف ردائه .
ردد الجنرال بصورة تعبيرية بعد قليل من الصمت :
ـ يجب شنقه .. وفقا للقوانين . أين السيد فيودر شليكلمان ؟
هرعوا لاستدعاء شليكلمان ـ ياوران الجنرال . اخضَرَّ وجه جيرشيل وفغر فاه . ظهر الياوران
. أصدر إليه الجنرال الأوامر اللازمة . وبان للحظة وجه الكاتب الهزيل المجدور ،
وطل ضابطان أو ثلاثة فى الغرفة بفضول .
قلتُ للجنرال بالألمانية قدر استطاعتى :
ـ أشفقوا عليه ، يا صاحب السعادة … أطلقوه …
فأجابنى بالروسية :
ـ أنتم أيها الشاب … لقد قلتُ لكم أنكم غير محنَّك ، وأرجوكم أن تصمتوا ولا
تتعبونى أكثر من ذلك .
خَرَّ جيرشيل صارخا على قدمىّ الجنرال .
ـ سعادتكم ، أعفوا عنى ، لن أكررها بعد الآن ، لن أكررها ، سعادتكم ، عندى زوجـة …
سعادتكم ، وابنة ، اصفحوا عنى …
ـ ما العمل !
ـ مذنب ، سعادتكم ، مذنب تماما … إنها أول مرة ، سعادتكم ، أول مرة ، صدقونى !
ـ أ لم تقدم أوراق أخرى ؟
ـ أول مرة ، سعادتكم … زوجة … ابنة … أعفوا …
ـ زوجة … سعادتكم … أبناء …
حدث لجيرشيل تحول فظيع . وبدلا من الهلع البادى على ملامحه ، والمميز للطبيعة
اليهودية القلقة المعروفة ، تجسدت حسرة ما قبل الموت البشعة . فراح يتلوى مثل وحش
فى شباك الصيد ، فغـر فاه ، وأخذ يُشَخِّر بصوت عال ، بل وراح يقفز فى مكانه خافقا
بمرفقيه فى رعب وهلع . كان فى فردة حذاء واحدة ، والأخرى نسوا إلباسه إياها …
وانفتح رداؤه … ووقعت طاقيته …
كنا جميعا نرجف ، وكان الجنرال صامتا .
بدأتُ الحديث ثانية :
ـ سعادتكم ، سامحوا هذا المسكين .
قال الجنرال بشكل متقطع وفى قلق :
ـ ممنوع ، إنها أوامر القانون ، وعبرة للآخرين .
ـ لوجه الله …
أجاب الجنرال وأشار آمرا نحو الباب بيده :
ـ السيد حامل العلم ، تفضل بالانصراف إلى مكانك .
انحنيتُ وخرجت . ولعدم وجود مكان خاص بى ، توقفتُ فى مكان غير بعيد عن بناية
الجنرال . بعد حوالى دقيقتين ظهر جيرشيل فى حراسة ثلاثة من الجنود . كان اليهودى
المسكين فى حالة ذهول ، وبالكاد كان يحرك قدميه . مر سليافكا بمحاذاتى ، وعاد
سريعا إلى المعسكر وفى يديه حبل ، وقد تجسدت على ملامحه الغليظة ، الخالية من الشر
، معاناة قاسية غريبة . وما إن لمح اليهودى الحبل حتى لوَّح بيديه وأخذ ينشج . وقف
الجنود بالقرب منه صامتين ، وأخذوا ينظرون إلى الأرض فى تَجَهُّم . اقتربتُ من
جيرشيل ورحتُ أتحدث معه . أخذ ينشج كالطفل ولم ينظر حتى إلىَّ . أشحتُ بيدى
وانصرفتُ إلى خيمتى . ارتميتُ على السجادة وأغمضتُ عينيىَّ …
فجأة ركض أحد ما بسرعة وجلبة إلى خيمتى . رفعتُ رأسى ـ رأيتُ سارا . كانت ملامحهـا
غائرة . انقذفتْ صوبى وتشبثت بيدى . راحت تكرر فى إلحاح بصوتها المختنق :
ـ لنذهب ، لنذهب ، لنذهب …
ـ إلى أين ؟ ولِمَ ؟ لنبق هنا .
ـ إلى الأب ، إلى الأب ، بسرعة … أنقذه ، أنقذه …
ـ إلى أى أب ؟
ـ إلى أبى ، إنهم يريدون شنقه …
ـ كيف ؟ هل جيرشيل …
ـ أبى … سأوضح لك كل شئ بعد ذلك ـ أضافت وهى تكاد تحطم يدى ـ فقط لنذهــب … لنذهب
…
انطلقنا من الخيمة . ظهرت مجموعة من الجنود فى الساحة ، فى الطريق إلى شجرة
البتولا الوحيدة … أشارت سارا بإصبعها فى صمت …
قلتُ لها فجأة :
ـ توقفى ، إلى أين نركض ؟ لن يصغ الجنود إلىَّ .
واصلتْ سارا سحبى وراءها … وأعترف ، لقد دارت رأسى .
قلتُ لها :
ـ اسمعى ، سارا ، ما جدوى الركض إلى هناك ؟ من الأفضل أن أذهب إلى الجنرال مرة
أخرى . لنذهب معا . وعسانا نتشفَّع له .
توقفتْ سارا فجأة ، ونظرت إلىَّ بجنون .
ـ افهمينى ، سارا ، لوجه الله . أنا لا أستطيع العفو عن أبيك ، ولكن الجنرال
يستطيع ، فلنذهب إليه .
قالت فى أنين :
ـ بعد أن يشنقوه …
تطلَّعتُ إليها . وكان الكاتب يقف على مقربة منا . فناديتُ عليه :
ـ إيفانوف ، اركض من فضلك إليهم ، هناك : مُرْهُم بالانتظار ، وقل إننى ذهبتُ
لأتشفَّع عند الجنرال .
ـ سمعا وطاعة …
وركض إيفانوف .
لم يسمحوا لنا بالدخول إلى الجنرال . رحتُ أستجدى وأُقنِع دون جدوى ، وتشاجرتُ فى
النهاية . أما المسكينة سارا فقد نَسَّرَتْ شعرها وارتمت على الحراس بلا فائدة :
ولم يسمحوا لنا .
نظرتْ سارا حولها بوحشية ، أمسكتْ رأسها بيديها ، واندفعت كالسهم إلى الساحة ، صوب
أبيها ، وأنا من خلفها . كانوا يتطلعون إلينا فى ذهول …
جرينا إلى الجنود . رأيناهم يتحلَّقون فى دائرة ، وتصوروا يا سادة ! كانوا يضحكون
بشدة على جيرشيل المسكين ! اهتجتُ وصرختُ فيهم . رآنا اليهودى ، ارتمى على رقبة
ابنته ، وتشبثتْ به سارا فى رعب .
لقد تصوَّر المسكين أنهم عفوا عنه … وأخذ يشكرنى … فاستدرتُ إلى الناحية الأخرى .
صرخ وضغط يديه بشدة :
ـ نبالتكم ، لم يعفوا عنى ؟
صَمَتُّ .
ـ لا ؟
ـ لا .
راح يغمغم :
ـ نبالتكم ، انظروا ، نبالتكم ، انظروا … ها هى ، تلك الفتاة ـ أ تعرفون أنها
ابنتى..
أجبته :
ـ أعرف . واستدرتُ ثانية .
أخذ يصيح :
ـ نبالتكم ، أنا لم أبتعد عن الخيمة ! أنا بلا ذنب … ـ توقَّف وأغمض عينيه للحظة …
ـ كنت أريد نقودك ، نبالتكم ، من الضرورى أن أعترف ، النقود … ولكننى بلا ذنب …
صَمَتُّ . كان جيرشيل بالنسبة لى شنيعا ، وهى أيضا : شريكته …
راح اليهودى يردد :
ـ ولكن الآن ، لو أنقذتمونى ، سوف آمر أنا … أ تفهمون ؟ … كل شئ ، أنا مستعد لأى
شئ …
كان يرتجف مثل الورقة ، ويتلفت حوله بسرعة .
عانقته سارا فى صمت ويأس .
اقترب منا الياوران قائلا :
ـ السيد حامل العلم ، سعادته أمر بالقبض عليكم . أما أنتم ـ صَمَتَ وأشار للجنود
نحـو اليهودى … والآن …
اقترب سليافكا من اليهودى .
فقلتُ للياوران ( وكان بصحبته خمسة جنود ) :
ـ فيودر كارليتش ، مُرُوا فى أسوأ الأحوال بإبعاد هذه الفتاة المسكينة …
ـ بالطبع . موافق .
كانت المسكينة تتنفس بالكاد ، بينما راح جيرشيل يتمتم فى أذنها بالعبرية …
انتزع الجنود سارا من بين ذراعى أبيها ، وحملوها فى حرص نحو ما يقرب من عشرين خطوة
. وفجأة تملَّصت من بين أيديهم واندفعت راكضة نحو جيرشيل … أوقفها سليافكا . دفعته
سارا ، واكتسى وجهها بحمرة شديدة ، لمعت عيناها وبسطت يدها ، ثم صرخت بالألمانية :
ـ هكذا … إذن فلتحل عليكم اللعنة ، اللعنة ثلاثا ، عليكم وعلى سلالتكم كلها ، كما
حلت على دافان وعفرون**** ، ولتحل عليكم لعنة الفقر والقحط والقهر ، والموت عارا !
ولتميد الأرض من تحتكم يا ملاحدة ، يا قساة ، يا شياطين متعطشين للدماء …
ارْتَدَتْ رأسُها إلى الخلف … وقعتْ على الأرض … رفعها الجنود وحملوها بعيدا .
أخذ الجنود جيرشيل من يده . لحظتئذ فهمتُ لماذا كانوا يضحكون على اليهودى : عندما
كنتُ مع سارا نركض من المعسكر ، كان بالفعل مضحكا على الرغم من كل الرعب الذى
يعتوره . لقد تجسَّد هلع وخوف مفارقة الحياة ، والابنة ، والأسرة لدى اليهودى
المسكين فى حركات جسمانية غريبة وشاذة : بالصراخ والقفز لدرجة أننا رحنا نضحك
جميعا دون إرادة منا برغم فظاعة الموقف بالنسبة لنا . وكاد المسكين يموت من الرعب
…
راح جيرشيل يصرخ :
ـ أوى ، أوى ، أوى … سأحكى ، سأحكى كثيرا . يا سيدى ضابط الصف ، أنتم تعرفوننى .
أنا سمسار ، سمسار شريف . لا تمسكونى ، اتركونى : أنا يهودى فقير . سارا … أين
سارا ؟ أوه ، أنا أعرف ! إنها عند السيد ملازم الأركان ( يعلم الله لماذا أنعم
علىَّ بهذه الرتبة الغريبة ) . يا سيدى ملازم الأركان ! أنا لم أبتعد عن الخيمة (
أقبل الجنود على جيرشيل … عوى بشدة ، وانسل من بين أيديهم ) . سعادتكم ، أعفوا عن
رب أسرة مسكين ! سأعطيكم عشر ورقات ، خمسة عشر ورقة ، سأعطى ، سعادتكـــم ! … (
جروه إلى شجرة البتولا ) ارحمونى ! أعفوا عنى ! يا سيدى ملازم الأركان ! سعادتكم !
يا سيـدى الجنرال ! والقائد العام !
وضعوا الأنشوطة فى رقبته … أغمضتُ عينيىَّ وانطلقتُ أعدو .
بقيتُ أسبوعين تحت التوقيف . وقالوا لى أن أرملة المسكين جيرشيل حضرت من أجل ثياب
الراحل ، فأمر لها الجنرال بمائة روبل . بعد ذلك لم أر سارا . جُرِحْتُ ، فأرسلونى
إلى المستشفى ، وعندما تماثلتُ للشفاء كانت دانتسيج قد استسلمت ـ ولحقتُ بفوجى على
ضفاف الراين .
_______
* العنوان الأصلى للقصة : " جِيِدْ " بكسر الجيم وتعطيشها وكسر الياء
وتسكين الدال ، وهى اللفظة الشعبية التى يطلقها الروس على اليهود منذ أكثر من
أربعة قرون . والكلمة لها تاريخ فلسفى ـ دينى ويتطابق معناها مع الكلمة الانجليزية
JUDAS والتى تعنى ضمنا وصراحة يهوذا أو الخائن .
وفى هذه القصة لم يستخدم المؤلف كلمة يهودى بمعناها الروسى إلا ثلاث مرات على لسان
الجنرال ، بينما استخدم كلمة " جيد " طوال القصة بداية من العنوان ـ
المترجم .
** من قصيدة للشاعر الروسى ميخائيل ليرمونتوف بعنوان " زوجة أمين الصندوق
" ـ تعليق المؤلف .
*** استمر حصار القوات الروسية وحلفائها لقلعة دانتسيج ( التى كانت موجودة آنذاك
فى بولندا التى كانت بدورها جزء من روسيا أثناء هجوم نابليون على روسيا عام 1812م
) من منتصف يناير حتى نهاية ديسمبر 1813م ، وانتهى الحصار بالتسليم الكامل بدون
قيد أو شرط ، واستسلام الحامية كلها للأسر . وفى لحظة الاستسلام كان نابليون قد
تراجع إلى ما وراء الراين ـ المترجم .
**** ورد فى أساطير التوراة ، أثناء خروج اليهود من مصر إلى الأراضى الكنعانية ،
أن دافان وعفرون قد تآمرا ضد موسى وراحا يحضان الناس على العودة إلى أرض مصر . وقد
لعن موسى المتآمرين بقوله : فلتميد الأرض من تحتكم أنتم وأسركم وممتلكاتكم .
- ترجمة : أشرف صباغ -
نسخة من الدرس
من موقع سرد - قصص و روايات
POWERED
BY: SaphpLesson3.0