منتدى الحاسب والجوال العربي
منتدى الحاسب والجوال العربي
كلمة الإدارة  

اهلاً وسهلاً، بك يا " ‏زائر "

نعتزر عن المشكلات التي حدثت في الفترة الفائتة كنا نجري إعادة تكويد وإزالة الصور التالفة والأكواد الزائدة لتقديم أفضل تجربة تصفح لك

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

hozaifa01

اليهودي_قصة

حذيفة احمد

حذيفة احمد

المدير العام
المدير العام
اليهودي_قصة Emptyالبلد البلد : اليهودي_قصة Sd10
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 1501
نقاط : 4362
مخالفات مخالفات : ليس لديه مخالفات
سرد - قصص و روايات








عنوان
الدرس: اليهودي . اضيف بواسطة : إيفان تورجينيف . بتاريخ:
2005-06-22.










احك لنا شيئا يا سيادة العقيد . قلنا فى النهاية لنيكولاى إليتش .
ابتسم العقيد وأطلق دفقة دخان من بين شواربه ، ومر بيده على شعره الأشيب ثم سرح
ببصره نحونا . كنا نحب نيكولاى إليتش ، ونحترمه كثيرا لطيبته وحكمته ، ورفقه
بإخواننا الشباب . كان طويل القامة ، عريض الكتفين ممتلئ ، ووجهه الأسمر "
واحد من أجمل الوجوه الروسية "** ، وصراحته ونظرته الذكية وابتسامته الخاطفة
وصوته الجهورى المفعم بالرجولة ـ كل شئ فيه كان يجذبنا ويثير إعجابنا . ـ هه ،
اسمعوا ـ بدأ كلامه ـ الحكاية كانت فى عام 1813م بضواحى دانتسيج*** . آنذاك كنتُ
أخدم فى أحد أفواج سلاح الفرسان ذى المهمات الصعبة ، وأذكر أننى كنتُ قد رُقِّيت
لِتَوِّى إلى رتبة حامل علم . وكان العمل المُسَلِّى ـ المعارك والحملات ـ شيئا
جيدا ، إلا إن الوضع كان مضجرا للغاية فى فيلق الحصار حيث تجلس طوال النهار ، كما
كان يحدث ، فى وهدة ما قرب الخيمة على القاذورات أو القش وتلعـب الورق من الصباح
إلى المساء . وربما من شدة الملل تذهب لترى كيف تُدَوِّم القنابل والقذائف
المتوهجة . فى البداية كان الفرنسيون يسلوننا بهجماتهم وتحرشاتهم التى ما لبثت أن
خمدت ، كما أن الذهاب لجمع الطعام للجنود قد أصابنا أيضا بالسأم . باختصار ، فقد
هبتْ علينا الكآبة هكذا مثل الإعصار . وقتها كان عامى التاسع عشر قد انقضى لتوه ،
وكنتُ صبيا يافعا مفعما بالحيوية . فكرتُ أن أتسلى على أحد الفرنسيين ، أو على …
هه أتفهمون … ولكن هذا ما حدث … من شدة الفراغ نزلتُ لألعب الورق . وفى مرة من
المرات ، بعد خسارة فظيعة ، أصابنى الحظ . وقرب الصباح ( كنا نلعب ليلا ) كنتُ قد
ربحـتُ كثيرا . خرجتُ متعبا ونعسانا إلى الهواء الطلق ، وجلستُ على المتراس
الترابى . كان الصباح جميلا وهادئا ، وقد اختفت خطوط تحصيناتنا الطويلة فى الضباب
، فرُحْتُ أستمتع بالمنظر حتى نمتُ فى جلستى .
أيقظنى سعال حَذِر ، فتحتُ عينيىَّ ، رأيتُ أمامى اليهودى البالغ من العمر حوالى
الأربعين فى رداء رمادى طويل الأطراف ، وحذاء وطاقية سوداء . كنا نبعث بهذا
اليهودى المدعو جيرشيل ، كلما تسلل الملل إلى معسكرنا ، إلى المعمل ليحضر لنا
نبيذا ومؤونة وأشياء أخرى تافهة . كان قصير القامة رفيعا ، مجدورا أخمر الوجه ،
يرمش قليلا وبشكل مستمر ، وحتى عيناه الحمراوان كانت تطرفان ، ولديه أنف معقوف طويل
، وكان دائم التنحنح …
بدأ بالدوران أمامى ، ثم انحنى بشكل مهين .
ـ هه ، ماذا تريد ؟ سألته فى النهاية .



ـ
جئتُ لأعرف هل يمكننى تقديم خدمة ما لنبالتكم …



ـ
لستُ فى حاجة إليك ، اغرب .



ـ
كما تأمرون ، كما تشاؤون . إننى تصورتُ أنه يمكننى تقديم خدمة ما …
ـ لقد أزعجتنى . اغرب ، قلتُ لك .



ـ
حسنا ، حسنا . ولكن اسمحوا لى بتهنئة نبالتكم بالربح …
ـ ومن أين عرفت ؟
ـ وكيف لا أعرف … المكسب كبير … كبير … أوه ! كم هو كبير …
فَرَدَ جيرشيل أصابعه وهز رأسه .
ـ الأمر سيان ـ قلتُ بضيق ـ ما فائدة المال هنا لأى شيطان ؟
ـ أوه ! لا تتحدثوا هكذا نبالتكم . آى … آى … لا تقولوا ذلك . المال ـ شئ جيد ،
ضرورى دائما ، كل شئ يمكن الحصول عليه بالمال ، كل شئ نبالتكم ! كل شئ ! فقط
مُرُوا السمسار وسوف يحضر لكم كل شئ ، كل شئ نبالتكم ! كل شئ !
ـ كفى أكاذيب أيها اليهودى .
ـ آى ! آى ! ـ كرر جيرشيل نافضا لحيته وسوالفه ـ نبالته لا يصدقنــى … آى … آى …
آى … ـ أغمض عينيه وراح يهز رأسه يمينا ويسارا ببطء ـ ولكنى أعرف ما يلزم للسيد
الضابط .. أعرف .. الآن أعرف !
اتخذ اليهودى مظهرا شديد الاحتيال .
ـ حقا ؟
طَرَفَ اليهودى فى جبن ، ثم مال نحوى .



ـ
يالها من جميلة ، نبالتكم ، يالها ! .. ـ أغمض جيرشيل عينيه ثانية ومط شفتيه ـ
نبالتكم ، مُرُونى … سترون بأنفسكم … الآن سأتحدث ، وستستمعون أنتم … لن تصدقوا ،
ولكن من الأفضل أن تأمرونى لأريكم … هكذا … هه هكذا !
صَمَتُّ ورحتُ أطالع اليهودى .



ـ
هه ، هذا حسن . هه ، جيد . هه ، ها أنا أريكم … ـ انفجر هذا الجيرشيل بالضحك ،
وربتَ على كتفى بهدوء ، وما لبث أن وثب كالملسوع .



ـ
وماذا بعد ، نبالتكم ، العربون ؟



ـ
ولكن ربما تخدعنى ، أو تأتينى بحيوان محنط .



ـ
آى ، فاى ، ما الذى تقولونه ؟ ـ ردد اليهودى بحرارة غريبة مشوِّحا بيديه ـ كيف
يمكـن ذلك ؟ ما عساكم ، نبالتكم ، مُرُوا بضربى خمسمائة … أربعمائة وخمسون عصا ـ
وأضاف على عجل …



ـ
فقط مُرُونى …



فى
هذا الوقت رفع أحد رفاقى طرف الخيمة ونادانى باسمى . نهضتُ مستعجلا وألقيتُ
لليهودى ورقة من فئة العشرة روبلات ، بينما راح هو يتمتم فى أثرى :
ـ
ضابط
، ضابط أعترف لكم ، يا سادة ، بأننى ظللتُ أنتظر حلول المساء بفارغ الصبر . فى هذا
اليوم نفسه قام الفرنسيون بهجمة ، ورد رتلنا بأخرى . وجاء المساء . تحلَّقنا جميعا
حول النيران ، طبخ الجنود عصيدة ، ودارت الأحاديث الفارغة . استلقيتُ على المعطف ،
شربتُ شايا ، واستمعتُ إلى حكايات الرفاق . دعونى إلى لعب الورق ، فرفضت . كنتُ فى
حالة قلق . راح الضباط ينصرفون بالتدريج إلى خيامهم ، وأخذت النيران فى الخمود .
الجنود أيضا تفرقوا أو ناموا فى أماكنهم ، وهدأ كل شئ . لم أنهض ، وكان جندى
المراسلة جالسا على معطف أمام النيران كما لو كان يصطاد سمكا ، فطردته وما لبث أن
هدأ المعسكـر تماما . مر الحرس الليلى ، وبدَّلوا النوبة . كنتُ طوال الوقت
مستلقيا فى انتظار شئ ما .
ظهرت النجوم . وخيَّم الليل . رحتُ أحدِّق طويلا فى النيران التى تكاد تخبو ، إلى
أن خمدت فى النهاية آخر شعلة . " لقد خدعنى اليهودى الملعون " ـ فكرتُ
بغيظ وأردتُ الصعود .
ـ نبالتكم … ـ تلعثم فى أذنى صوت متوتر مرعوب .
حدَّقتُ : جيرشيل . كان ممتقعا ، يتهته ويهمس .
ـ تفضلوا فى خيمتكم .
نهضتُ وسرتُ وراءه . انكمش اليهودى على نفسه وانطلق فى حرص على الأعشاب الرمادية
القصيرة . لمحتُ فى الطرف البعيد شخصا ملفوفا ساكنا . أشار لها اليهودى بيده ،
فاقتربتْ منه . تهامس معها ثم توجه نحوى . أومأ برأسه عدة مرات ، ودخل ثلاثتنا إلى
الخيمة ومن المضحك القول بأننى كنتُ ألهث .
ـ ها هى ، نبالتكم ـ همس اليهودى جاهدا ـ ها هى . إنها خائفة نوعا ما ، خائفة .
ولكننى قلتُ لها بأن السيد الضابط إنسان جيد ، رائع … فلا تخافى ـ وتابع كلامه ـ
لا تخافى …
لم يتحرك الشخص الملفوف ، وكنتُ أنا نفسى فى حالة ارتباك فظيعة ، ولا أدرى ماذا
أقول . راوح جيرشيل أيضا فى مكانه ، ثم حرك يديه على نحو غريب …
قلتُ له :
ـ ومع ذلك هيا اخرج …
امتثل جيرشيل فى تثاقل .اقتربتُ من الشخص الملفوف ، رفعتُ من فوق رأسها القلنسوة
بهدوء . فى دانتسيج كان كل شئ يشتعل : وفى حمرة واندفاع حريق بعيد ، فى لمعانه
الواهن رأيتُ وجها ممتقعا ليهودية شابة . أذهلنى جمالها ، وقفتُ أمامها ورحتُ أنظر
إليها صامتا . لم ترفع عينيها . حملتنى خشخشة خفيفة على النظر : جيرشيل يطل برأسه
من تحت الخيمة . أشحتُ له بغيظ ، فاختفى .
ـ ما اسمك ؟ ـ نطقتُ فى النهاية .
ـ سارا ـ أجابتْ ، وفى تلك اللحظة ومض فى الظلام حَوَرُ عينيها الواسعتين
المسحوبتين ، وأسنانها الصغيرة ، المتساوية ، اللامعة .
اختطفتُ وسادتين جلديتين وألقيتُ بهما على الأرض . دعوتها للجلوس ، فخلعت معطفهـا
وجلست . كانت ترتدى سترة قصيرة مفتوحة من الأمام ، عليها أزرار فضية مستديرة
مختلفة ، بأكمام واسعة ، وقد التفتْ ضفيرتها السوداء الضخمة حول رأسها الصغير
مرتين . جلستُ بالقرب منها ، تناولتُ يدها السمراء الصغيرة . مانعتْ قليلا وكأنها
تخشى التطلع نحوى ، وراحت تتنفس فى توتر وارتباك . أنعمتُ النظر إلى جانب وجهها ذى
الملامح الشرقية ، وضغطتُ بوجل على أصابعها المختلجة الباردة .
ـ أ يمكنك التحدث بالروسية ؟
ـ يمكننى … قليلا .
ـ أ تحبين الروس ؟
ـ نعم ، أحبهم .
ـ معنى ذلك أنك تحبيننى أيضا ؟
ـ أحبكم .
واتتنى رغبة فى معانقتها ، ولكنها تراجعت برشاقة …
ـ لا ، لا ، أرجوكم يا سيد ، من فضلكم …
ـ هه ، انظرى إلىَّ على الأقل .
ثبتتْ عينيها السوداوين الرائعتين على وجهى ، وما لبثت أن تحولت إلى الناحية
الأخرى مبتسمة ، ووجهها يكاد يتضرج .
قَبَّلتُ يدها فى حرارة . نظرتْ إلىَّ مقطِّبة ثم انفجرت ضاحكة فى هدوء .
ـ لماذا تضحكين ؟
غطتْ وجهها بيديها وتعالت ضحكاتها . ظهر جيرشيل عند باب الخيمة مهددا إياها ،
فصمتتْ .
ـ اغرب من هنا ! ـ همستُ إليه من بين أسنانى ـ لقد أضجرتنى .
لم يخرج جيرشيل . تناولت حفنة أوراق من فئة العشرة روبلات من الحقيبة ودسستها فى
يده ، ثم دفعته إلى الخارج .
ـ أعطنى أيضا يا سيد … ـ أخذتْ تردد .
قذفتُ إليها بضع ورقات على ركبتيها ، فالتقطتها برشاقة مثل القطة .
ـ هه ، والآن سوف أقَبِّلك .
ـ لا ، من فضلكم ، أرجوكم ـ تمتمت بصوت واجف متوسل .
ـ مما تخافين ؟
ـ خائفة .
ـ كفى …
ـ لا ، أرجوكم .
نظرتْ نحوى فى وجل ، وأمالتْ رأسها قليلا على كتفها ثم شبَّكتْ يديها . تركتها
وشأنها .
ـ إذا كنتَ تريد … هيا ـ قالت بعد فترة صمت قصيرة ، وقرَّبتْ يدها من شفتىَّ .
قبلتها بدون رغبة شديدة . وراحت سارا تضحك مرة أخرى .
تصاعدت الدماء إلى رأسى ، حنقتُ على نفسى ولم أدر ماذا أفعل . إلا إننى فكرتُ فى
النهاية ، أى غبى أنا ؟ وتوجهتُ نحوها مرة أخرى .
ـ سارا ، اسمعى ، أنا مغرم بك .
ـ أعرف .
ـ تعرفين ؟ ألا تشفقين ؟ وأنتِ نفسك تحبيننى ؟
هزتْ سارا رأسها .
ـ لا ، أجيبينى كما ينبغى .
فقالت :
ـ دعنى أراك .
مِلْتُ نحوها . وضعتْ يديها على كتفى . راحت تنظر فى وجهى ، قطبتْ قليلا ثم
ابتسمتْ … لم أتماسك ، طبعتُ قبلة سريعة على خدها . انتفضتْ ، وبقفزة واحدة كانت
عند باب الخيمة .
ـ هه ، أية متوحشة أنت !
صمتتْ ولم تتحرك من مكانها .
ـ تعالِ هنا إلىَّ …
ـ لا ، يا سيد ، وداعا . إلى المرة القادمة .
مد جيرشيل رأسه الأجعد ثانية وهمس لها بكلمتين ، فانحنت وانسلت كالأفعى .
انطلقتُ من الخيمة فى أثرها ، لكننى لم أرها ، أو أرى جيرشيل .
لم أستطع النوم طوال الليل .

فى الصباح التالى جلسنا فى خيمة المقدم ، ورحتُ ألعب بدون رغبة . دخل جندى
المراسلة .
ـ يسألون عنكم ، نبالتكم .
ـ من ؟
ـ اليهودى .
أ من المعقول أن يكون جيرشيل ! " ـ فكرتُ وانتظرتُ حتى انتهى الدور ثم نهضتُ
خارجا . وبالفعل رأيتُ جيرشيل .
ـ ماذا ـ سألنى بابتسامة وديعة ـ نبالتكم مبسوطون ؟
ـ آخ ، أنت ! .. ( آنئذ تلفَّتَ العقيد حوله على الرغم من عدم وجود نساء ) ، هل
تسخر منى يا عزيزى ؟
ـ ماذا ؟
ـ أى ماذا ، وتسأل أيضا ؟
ـ آى ، آى ، يا سيدى الضابط ، ما عساكم ـ رد جيرشيل بعتاب ، ولكن دون أن يكف عن
الابتسام ـ الفتاة شابة ، خجولة … لقد أرهبتموها … حقيقة أرهبتموها .
ـ الخجل شئ جيد ! إذن فلماذا أخذتْ النقود ؟
ـ وكيف ذلك ؟ يعطون نقودا فلماذا لا نأخذ …
ـ اسمع ، جيرشيل ، دعها تأتى ثانية ، وسوف أكرمك … فقط أرجو ألا تظهر بسحنتك
الغبية فى خيمتى ، دعنا وشأننا ، أ تسمع ؟
ـ ماذا ؟ أ تعجبكم ؟
ـ هه ، نعم .
ـ جميلة ! لا يوجد مثلها أبدا . هلا أعطيتنى الآن نقودا من فضلك ؟
ـ خذ ، ولكن اسمع ـ ما أوله شرط آخره نور . أحضرها ثم اذهب إلى الشيطان . وسوف
أوصِّلها أنا إلى البيت .
ـ ممنوع ، ممنوع ، مستحيل ـ اعترض اليهودى فى عجلة ـ آى ، آى ، مستحيل . من الأفضل
أن أتمشى بالقرب من الخيمة نبالتكم ، أنا ، أنا نبالتكم ، من الأفضل أن أبتعد
قليلا … أنا ، نبالتكم ، على استعداد لخدمتكم ، نعم من الأفضل أن أبتعد … ما عساكم
؟ سأبتعد .
ـ حذارى … أحضرها ، أ تسمع ؟
ـ ولكن أ ليست رائعة ؟ هه ، يا سيدى الضابط ؟ نبالتكم ؟ رائعة ؟ هه ؟
مال جيرشيل وحدَّق فى عينيىَّ .
ـ حسنا .
ـ هه ، ولكن اعطنى ورقة بزيادة …
ألقيتُ إليه بورقة وافترقنا .
أخيرا انقضى النهار ، وحل الليل . جلستُ ، طويلا ، فى خيمتى وحيدا . فى الخارج لم
يكن هناك شئ واضح ، والساعة قد دقت الثانية فى المدينة . رحتُ أسب اليهودى … وفجأة
دخلتْ سارا بمفردها . قفزتُ واحتضنتها … لمستُ وجهها بشفتىَّ … كانت باردة كالثلج
، استطعتُ بالكاد تبيُّن ملامحها … أجلستها وركعتُ فى مواجهتها ، تناولتُ يدها ،
مسستُ خصرها … لم تتفوه ، أو تتحرك . فجأة ، وبصوت عال أخذتْ تنهنه مرتعدة .
حاولتُ تهدئتها دون جدوى … كانت تبكى بحرقة … لاطفتُها وجففتُ دموعها ، لم تقاوم ،
ولم ترد على أسئلتى ، ولكنها بكتْ ، وبكت بغزارة . تفصَّد قلبى . نهضتُ وخرجتُ من
الخيمة .
ظهر جيرشيل بشكل مفاجئ وكأن الأرض انشقت عنه .
قلتُ :
ـ جيرشيل ، ها هى النقود التى وعدتك بها . خذ سارا .
اندفع اليهودى نحوها ، فكفت عن البكاء وتعلَّقت به .
ـ وداعا سارا ـ قلتُ لها ـ الله معك . سنلتقى فى وقت ما ، فى وقت آخر .
صمتَ جيرشيل وانحنى . مالتْ سارا ، تناولتْ يدى وضمتها إلى شفتيها ، فاستدرتُ …
ظللتُ طوال خمسة أو ستة أيام ، يا سادة ، أفكر فى اليهودية . أما جيرشيل فلم يظهر
، ولم يره أحد فى المعسكر . صرتُ أنام فى الليل بشكل سئ للغاية : تراءت لى العيون
السوداء المبللة والرموش الطويلة ، ولم تنس شفتاى لمسة خدودها الناعمة ، النضرة
مثل قشرة البرقوق . أرسلونى مع فصيلتى لجلب الطعام من قرية نائية . وبينما راح
جنودى يفتشون فى البيوت ، ظللتُ أنا فى الشارع ولم أنزل من فوق ظهر حصانى . فجأة
تشبث أحد ما بقدمى …
ـ يا إلهى ، سارا !
كانتْ ممتقعة ومرتبكة .
ـ سيدى الضابط ، سيدى … ساعدونى ، أنقذونى : الجنود يهينوننا … سيدى الضابط …
تعرَّفتْ علىَّ ، فتوردت ملامحها .
ـ هل تعيشين هنا ؟
ـ هنا .
ـ أين ؟
أشارت لى سارا نحو بيت صغير عتيق . همزتُ للحصان ، فانطلق يعدو . على باب البيت
كانت هناك يهودية دميمة مشعثة تحاول انتزاع ثلاث دجاجات وأوزة من يدى الملازم
الطويل سليافكا الذى كان يرفع غنيمته إلى أعلى ويضحك ، والدجاجات تقاقى والأوزة
تزعق ، بينما كان هناك محاربان آخران قد حمَّلا حصانيهما بالدريس والتبن وأجولة
الطحين . ومن نفس البيت تصاعدت هتافات الروس الصغار وسبابهم … صحتُ فى جنودى
وأمرتهم بأن يدعوا اليهود وشأنهم ، وألا يأخذوا من عندم شيئا . امتثل الجنود للأمر
، وامتطى الملازم فَرَسَتَه الكميت بروزيربينا ، أو كما دعاها " بروجيربيللا
" ، وخرج ورائى إلى الشارع .
قلتُ لسارا :
ـ هه ، ماذا ؟ مبسوطة ؟
نظرتْ إلىَّ بابتسامة .
ـ أين اختفيتِ طوال هذه الفترة ؟
خفضتْ عينيها .
ـ سأحضر إليكم غدا .
ـ مساء ؟
ـ لا ، يا سيدى ، فى الصباح .
ـ هه ، حذارى أن تخدعينى .
ـ لا ، لا ، لن أخدعك .
كنتُ أتأملها بنهم . وقد بدتْ لى فى ضوء النهار أكثر روعة وجمالا . وأذكر أن ما
أفعمنى بالذات هو لون وجهها الكهرمانى الأربد ، وشعرها الأسود الضارب إلى الزرقة …
انحنيتُ من فوق الحصان وضغطتُ على يدها الصغيرة بقوة .
ـ وداعا ، سارا … أرجو أن تأتى .
ـ سآتى .
ذهبتْ إلى البيت ، بينما أمرتُ الملازم أن يتبعنى مع المجموعة ورحتُ أركض .

استيقظتُ فى اليوم التالى مبكرا . ارتديتُ ملابسى وخرجتُ من الخيمة . كان الصباح
ساحرا : الشمس قد طلعتْ لتوها ، والحشائش تلمع بلون أرجوانى مُنَدَّى . صعدتُ إلى
متراس الخندق وجلستُ على قمة الكوَّة ، وخلفى يقبع مدفع ضخم زهرى اللون قد وجَّه
فوهته المعتمة نحو الساحة . رحتُ أتلفتُ مشتتا فى كل الاتجاهات … وفجأة لمحتُ ،
على بعد ما يقرب من مائة خطوة ، جسدا مسرعا فى رداء رمادى طويل الأطراف . عرفتُ
فيه جيرشيل . توقف طويلا دون حراك فى مكان واحد . بعد ذلك ركض جانبا لمسافة قصيرة
. راح يتلفَّت حوله بعجلة وخوف … أطلق صيحة ، وجلس . مد رقبته وأخذ يتلفَّت مرة
أخرى ، ويتنصَّت . كنتُ أرى جميع حركاته بوضوح . مد يده فى عُبِّه وأخرج قطعة ورق
وقلما وراح يكتب أو يرسم شيئا ما . كان جيرشيل يتوقف باستمرار ويجفل مثل الأرنب ،
ثم يطالع بانتباه نحو الضاحية كما لو كان يرسم معسكرنا . أخفى الورقة أكثر من مرة
، ضَيَّقَ عينيه ، تشمم الهواء ، ثم تابع عمله ثانية . وفى النهاية جلس اليهودى
فوق العشب . خلع حذاءه ودَسَّ الورقة بداخله . ولكنه لم يكد ينتصب ، وإذا فجأة
وعلى بُعْدِ عشر خطوات منه يظهر من وراء منحدر المتراس رأس الملازم ذو الشوارب
الكثة . راح جسد سليافكا الطويل الأخرق يرتفع شيئا فشيئا حتى برز كله ، بينما
اليهودى معطيا إياه ظهره . اقترب منه سليافكا حثيثا ووضع يده الثقيلة على كتفه .
تلوَّى جيرشيل ، وأخذ يتطاوح كالورقة ثم أطلق صرخة مؤلمة مثل الأرنب . تحدث إليه
سليافكا بشراسة وجذبه من تلابيبه . لم أكن أسمع شيئا من حديثهما ، ولكن من حركات
اليهودى اليائسة ، وملامحه المتوسلة ، بدأتُ أُحَزِّر الأمر . ارتمى اليهودى على
قدم الملازم مرتين ، وضع يده فى جيبه ، أخرج منديلا ممزقا ذا رسوما مربعة ، فك
عقدته ، تناول ورقة من فئة العشرة روبلات … أخذ سليافكا الهدية فى شموخ ، ولم يكُف
عن جر اليهودى من ياقته . تملَّصَ جيرشيل من يده واندفع جانبا . انطلق الملازم
خلفه متعقبا . أخذ اليهودى يركض بخفة وقدماه فى الجوارب الزرقاء تعدوان بسرعة
شديدة . ولكن سليافكا بعد خطوتين أو ثلاث تمكَّن من القبض على اليهودى المقرفص ،
ورفعه ثم حمله مباشرة إلى المعسكر . نهضتُ ، وترجَّلتُ لألتقيه فى منتصف المسافة .

ـ آ ! .. نبالتكم ! … ـ صاح سليافكا ـ إننى أحمل إليكم كشَّافا ، كشَّافا ! ـ كان
العرق يتصبب من الروسى الشاب قوى البنية ـ كفاك تلوِّى ، يهودى شيطان ! هه .. هه
ماذا ! هه ، وإلا فعصتك !
كان اليهودى المسكين يعافر بكوعيه فى صدر سليافكا ، ويرفس بقدميه … وعيناه
مفتوحتان فى تشنج …
سألتُ سليافكا :
ـ ما هذا ؟
ـ ها هو ذا ، نبالتكم : تفضلوا بنزع الحذاء من قدمه اليمنى ، فذلك صعب بالنسبة لى
ـ كان لا يزال يحمل اليهودى بين يديه .
انتزعتُ الحذاء ، سحبتُ الورقة المطوية ، فتحتها ورأيتُ رسما تفصيليا لمعسكرنا .
وكانت هناك ملاحظات كثيرة على الساحات والميادين كُتِبَتْ بخط دقيق بالعبرية .
أوقف سليافكا اليهودى بعد ذلك على قدميه . فتح اليهودى عينيه ، رآنى ، فانهار
أمامى على ركبتيه .
عرضتُ عليه الورقة فى صمت .
ـ ما هذا ؟
ـ هذا : لا شئ ، سيدى الضابط . هذا ببساطة لا شئ … ـ وانقطع صوته .
ـ أنت كشَّاف ؟
لم يفهمنى . تمتم بكلمات غير مترابطة ، ومس ركبتى فى هلع …
ـ أنت جاسوس ؟
صاح محركا رأسه فى ضعف :
ـ آى ، كيف يمكن ؟ أنا … أبدا … أنا … مستحيل . لا يمكن … من غير الممكن . أنا
مستعد . أنا ، الآن ، سأعطى نقودا ، سأدفع ـ غمز وأغمض عينيه .
انزاحت الطاقية على قفاه ، وتهدل شعره الأحمر فى خصلات مبللة بالعرق البارد ،
وازرقَّت شفتاه واعوجَّتا فى تشنج ، وتقلَّص حاجباه فى ألم ، وغارت وجنتاه …

احتشد الجنود حولنا . فى البداية أردتُ إفزاع جيرشيل كما ينبغى ، فأمرتُ سليافكا
بالصمت . ولكن الآن صار الأمر على مرأى من الجميع ومن غير الممكن عدم " إحاطة
الرئاسة " .
قلتُ للملازم :
ـ خذه إلى الجنرال .
انطلق صوت اليهودى صارخا فى يأس :
ـ سيدى الضابط ، نبالتكم ! أنا غير مذنب ، غير مذنب … مُرُوهم بإطلاق سراحى ،
مُرُوهم …
ردد سليافكا :
ـ ها هو صاحب السعادة ، سوف يفصل فى الأمر … لنذهب .
صرخ اليهودى فى أثرى :
ـ نبالتكم ! .. مُرُوهم ! اعفوا عنى !
آلمنى صراخه ، فضاعفتُ من خطواتى .
كان جنرالنا من أصل ألمانى ، شريف وطيب ، ولكنه منفذ صارم للقواعد العسكرية .
دخلتُ إلى بنايته الصغيرة التى بُنِيَت منذ فترة غير بعيدة . بكلمات قليلة أوضحتُ
له سبب زيارتى . كنتُ أعرف صرامة القوانين العسكرية ، ولذا لم أتفوه حتى بكلمة
" كشَّاف " ، وحاولتُ تصوير الأمر كله بشكل بسيط وهَيِّن ، وأنه ليس
هناك ما يستحق الاهتمام . ومن سوء حظ جيرشيل أن الجنرال كان يضع القيام بالواجب فى
مرتبة أعلى من الشفقة .
ـ أنتم شباب ـ قال لى ـ ولستم خبيرا فى ماهية تلك الأمور . أنتم بعد غير محنكين فى
جوهر العمل العسكرى . الأمر الذى ( كان الجنرال يحب كثيرا كلمة " الذى "
) قدمتم به تقريرا يعتبر هاما ، وخطيرا للغاية … ولكن أين هذا الشخص الذى قُبِضَ
عليه ؟ ذلك اليهودى ؟ أين هو ؟
خرجتُ من الخيمة وأمرتُ بإحضار اليهودى .
جاؤا باليهودى . وكان المسكين يقف على قدميه بالكاد .
تمتم الجنرال متوجها إلىَّ :
ـ نعم ، أين المُخَطَط الذى عُثِرَ عليه مع هذا الشخص ؟
ناولته الورقة . فتحها الجنرال ، تراجع إلى الوراء ، ضَيَّقَ عينيه وقطَّبَ حاجبيه
.
ـ هذا مُـ .. ذْ .. هـِ .. ل ـ ردد بفترات صمت ـ من الذى قبض عليه ؟
قعقع سليافكا فى حدة :
ـ أنا ، سعادتكم .
ـ آ ! .. حسنا ! حسنا ! هه ، يا عزيزى ، ماذا يمكنك أن تقول فى دفاعك ؟
ـ وا .. وا .. سعادتكم ـ تمتم جيرشيل ـ أنا .. اصفحوا عنى .. سعادتكم .. غير مذنب
.. سلوا سعادتكم السيد الضابط .. أنا سمسار ، سعادتكم ، سمسار شريف .
ردد الجنرال بصوت خافت ، وهز رأسه فى خطورة :
ـ ينبغى التحقيق معه ، ولكن كيف ذلك يا أخينا ؟
ـ غير مذنب ، سعادتكم ، غير مذنب .
ـ أنت الذى رسمت المخطط ؟ أنت جاسوس معاد ؟
صرخ جيرشيل فجأة :
ـ لستُ أنا ! لستُ أنا ، سعادتكم !
نظر الجنرال إلى سليافكا .
ـ إنه يكذب ، يا صاحب السعادة . السيد الضابط أخرج بنفسه الوثيقة من الحذاء .
نظر الجنرال نحوى ، وكنتُ مجبرا على هز رأسى .
ـ أنت يا حبيبى … كشَّاف معاد … يا حبيبى …
قال اليهودى اليائس فى همس :
ـ لستُ أنا … لستُ أنا …
ـ هل قدمت قبل ذلك مثل هذه المعلومات التفصيلية للعدو ؟ اعترف …
ـ كيف يمكن !
ـ أنت يا عزيزى ، لن تخدعنى . أنت كشَّاف ؟
أغمض اليهودى عينيه ، ثم هز رأسه ورفع أطراف ردائه .
ردد الجنرال بصورة تعبيرية بعد قليل من الصمت :
ـ يجب شنقه .. وفقا للقوانين . أين السيد فيودر شليكلمان ؟
هرعوا لاستدعاء شليكلمان ـ ياوران الجنرال . اخضَرَّ وجه جيرشيل وفغر فاه . ظهر الياوران
. أصدر إليه الجنرال الأوامر اللازمة . وبان للحظة وجه الكاتب الهزيل المجدور ،
وطل ضابطان أو ثلاثة فى الغرفة بفضول .
قلتُ للجنرال بالألمانية قدر استطاعتى :
ـ أشفقوا عليه ، يا صاحب السعادة … أطلقوه …
فأجابنى بالروسية :
ـ أنتم أيها الشاب … لقد قلتُ لكم أنكم غير محنَّك ، وأرجوكم أن تصمتوا ولا
تتعبونى أكثر من ذلك .
خَرَّ جيرشيل صارخا على قدمىّ الجنرال .
ـ سعادتكم ، أعفوا عنى ، لن أكررها بعد الآن ، لن أكررها ، سعادتكم ، عندى زوجـة …
سعادتكم ، وابنة ، اصفحوا عنى …
ـ ما العمل !
ـ مذنب ، سعادتكم ، مذنب تماما … إنها أول مرة ، سعادتكم ، أول مرة ، صدقونى !
ـ أ لم تقدم أوراق أخرى ؟
ـ أول مرة ، سعادتكم … زوجة … ابنة … أعفوا …
ـ زوجة … سعادتكم … أبناء …
حدث لجيرشيل تحول فظيع . وبدلا من الهلع البادى على ملامحه ، والمميز للطبيعة
اليهودية القلقة المعروفة ، تجسدت حسرة ما قبل الموت البشعة . فراح يتلوى مثل وحش
فى شباك الصيد ، فغـر فاه ، وأخذ يُشَخِّر بصوت عال ، بل وراح يقفز فى مكانه خافقا
بمرفقيه فى رعب وهلع . كان فى فردة حذاء واحدة ، والأخرى نسوا إلباسه إياها …
وانفتح رداؤه … ووقعت طاقيته …
كنا جميعا نرجف ، وكان الجنرال صامتا .
بدأتُ الحديث ثانية :
ـ سعادتكم ، سامحوا هذا المسكين .
قال الجنرال بشكل متقطع وفى قلق :
ـ ممنوع ، إنها أوامر القانون ، وعبرة للآخرين .
ـ لوجه الله …
أجاب الجنرال وأشار آمرا نحو الباب بيده :
ـ السيد حامل العلم ، تفضل بالانصراف إلى مكانك .
انحنيتُ وخرجت . ولعدم وجود مكان خاص بى ، توقفتُ فى مكان غير بعيد عن بناية
الجنرال . بعد حوالى دقيقتين ظهر جيرشيل فى حراسة ثلاثة من الجنود . كان اليهودى
المسكين فى حالة ذهول ، وبالكاد كان يحرك قدميه . مر سليافكا بمحاذاتى ، وعاد
سريعا إلى المعسكر وفى يديه حبل ، وقد تجسدت على ملامحه الغليظة ، الخالية من الشر
، معاناة قاسية غريبة . وما إن لمح اليهودى الحبل حتى لوَّح بيديه وأخذ ينشج . وقف
الجنود بالقرب منه صامتين ، وأخذوا ينظرون إلى الأرض فى تَجَهُّم . اقتربتُ من
جيرشيل ورحتُ أتحدث معه . أخذ ينشج كالطفل ولم ينظر حتى إلىَّ . أشحتُ بيدى
وانصرفتُ إلى خيمتى . ارتميتُ على السجادة وأغمضتُ عينيىَّ …
فجأة ركض أحد ما بسرعة وجلبة إلى خيمتى . رفعتُ رأسى ـ رأيتُ سارا . كانت ملامحهـا
غائرة . انقذفتْ صوبى وتشبثت بيدى . راحت تكرر فى إلحاح بصوتها المختنق :
ـ لنذهب ، لنذهب ، لنذهب …
ـ إلى أين ؟ ولِمَ ؟ لنبق هنا .
ـ إلى الأب ، إلى الأب ، بسرعة … أنقذه ، أنقذه …
ـ إلى أى أب ؟
ـ إلى أبى ، إنهم يريدون شنقه …
ـ كيف ؟ هل جيرشيل …
ـ أبى … سأوضح لك كل شئ بعد ذلك ـ أضافت وهى تكاد تحطم يدى ـ فقط لنذهــب … لنذهب

انطلقنا من الخيمة . ظهرت مجموعة من الجنود فى الساحة ، فى الطريق إلى شجرة
البتولا الوحيدة … أشارت سارا بإصبعها فى صمت …
قلتُ لها فجأة :
ـ توقفى ، إلى أين نركض ؟ لن يصغ الجنود إلىَّ .
واصلتْ سارا سحبى وراءها … وأعترف ، لقد دارت رأسى .
قلتُ لها :
ـ اسمعى ، سارا ، ما جدوى الركض إلى هناك ؟ من الأفضل أن أذهب إلى الجنرال مرة
أخرى . لنذهب معا . وعسانا نتشفَّع له .
توقفتْ سارا فجأة ، ونظرت إلىَّ بجنون .
ـ افهمينى ، سارا ، لوجه الله . أنا لا أستطيع العفو عن أبيك ، ولكن الجنرال
يستطيع ، فلنذهب إليه .
قالت فى أنين :
ـ بعد أن يشنقوه …
تطلَّعتُ إليها . وكان الكاتب يقف على مقربة منا . فناديتُ عليه :
ـ إيفانوف ، اركض من فضلك إليهم ، هناك : مُرْهُم بالانتظار ، وقل إننى ذهبتُ
لأتشفَّع عند الجنرال .
ـ سمعا وطاعة …
وركض إيفانوف .

لم يسمحوا لنا بالدخول إلى الجنرال . رحتُ أستجدى وأُقنِع دون جدوى ، وتشاجرتُ فى
النهاية . أما المسكينة سارا فقد نَسَّرَتْ شعرها وارتمت على الحراس بلا فائدة :
ولم يسمحوا لنا .
نظرتْ سارا حولها بوحشية ، أمسكتْ رأسها بيديها ، واندفعت كالسهم إلى الساحة ، صوب
أبيها ، وأنا من خلفها . كانوا يتطلعون إلينا فى ذهول …
جرينا إلى الجنود . رأيناهم يتحلَّقون فى دائرة ، وتصوروا يا سادة ! كانوا يضحكون
بشدة على جيرشيل المسكين ! اهتجتُ وصرختُ فيهم . رآنا اليهودى ، ارتمى على رقبة
ابنته ، وتشبثتْ به سارا فى رعب .
لقد تصوَّر المسكين أنهم عفوا عنه … وأخذ يشكرنى … فاستدرتُ إلى الناحية الأخرى .
صرخ وضغط يديه بشدة :
ـ نبالتكم ، لم يعفوا عنى ؟
صَمَتُّ .
ـ لا ؟
ـ لا .
راح يغمغم :
ـ نبالتكم ، انظروا ، نبالتكم ، انظروا … ها هى ، تلك الفتاة ـ أ تعرفون أنها
ابنتى..
أجبته :
ـ أعرف . واستدرتُ ثانية .
أخذ يصيح :
ـ نبالتكم ، أنا لم أبتعد عن الخيمة ! أنا بلا ذنب … ـ توقَّف وأغمض عينيه للحظة …
ـ كنت أريد نقودك ، نبالتكم ، من الضرورى أن أعترف ، النقود … ولكننى بلا ذنب …
صَمَتُّ . كان جيرشيل بالنسبة لى شنيعا ، وهى أيضا : شريكته …
راح اليهودى يردد :
ـ ولكن الآن ، لو أنقذتمونى ، سوف آمر أنا … أ تفهمون ؟ … كل شئ ، أنا مستعد لأى
شئ …
كان يرتجف مثل الورقة ، ويتلفت حوله بسرعة .
عانقته سارا فى صمت ويأس .
اقترب منا الياوران قائلا :
ـ السيد حامل العلم ، سعادته أمر بالقبض عليكم . أما أنتم ـ صَمَتَ وأشار للجنود
نحـو اليهودى … والآن …
اقترب سليافكا من اليهودى .
فقلتُ للياوران ( وكان بصحبته خمسة جنود ) :
ـ فيودر كارليتش ، مُرُوا فى أسوأ الأحوال بإبعاد هذه الفتاة المسكينة …
ـ بالطبع . موافق .
كانت المسكينة تتنفس بالكاد ، بينما راح جيرشيل يتمتم فى أذنها بالعبرية …
انتزع الجنود سارا من بين ذراعى أبيها ، وحملوها فى حرص نحو ما يقرب من عشرين خطوة
. وفجأة تملَّصت من بين أيديهم واندفعت راكضة نحو جيرشيل … أوقفها سليافكا . دفعته
سارا ، واكتسى وجهها بحمرة شديدة ، لمعت عيناها وبسطت يدها ، ثم صرخت بالألمانية :

ـ هكذا … إذن فلتحل عليكم اللعنة ، اللعنة ثلاثا ، عليكم وعلى سلالتكم كلها ، كما
حلت على دافان وعفرون**** ، ولتحل عليكم لعنة الفقر والقحط والقهر ، والموت عارا !
ولتميد الأرض من تحتكم يا ملاحدة ، يا قساة ، يا شياطين متعطشين للدماء …
ارْتَدَتْ رأسُها إلى الخلف … وقعتْ على الأرض … رفعها الجنود وحملوها بعيدا .
أخذ الجنود جيرشيل من يده . لحظتئذ فهمتُ لماذا كانوا يضحكون على اليهودى : عندما
كنتُ مع سارا نركض من المعسكر ، كان بالفعل مضحكا على الرغم من كل الرعب الذى
يعتوره . لقد تجسَّد هلع وخوف مفارقة الحياة ، والابنة ، والأسرة لدى اليهودى
المسكين فى حركات جسمانية غريبة وشاذة : بالصراخ والقفز لدرجة أننا رحنا نضحك
جميعا دون إرادة منا برغم فظاعة الموقف بالنسبة لنا . وكاد المسكين يموت من الرعب

راح جيرشيل يصرخ :
ـ أوى ، أوى ، أوى … سأحكى ، سأحكى كثيرا . يا سيدى ضابط الصف ، أنتم تعرفوننى .
أنا سمسار ، سمسار شريف . لا تمسكونى ، اتركونى : أنا يهودى فقير . سارا … أين
سارا ؟ أوه ، أنا أعرف ! إنها عند السيد ملازم الأركان ( يعلم الله لماذا أنعم
علىَّ بهذه الرتبة الغريبة ) . يا سيدى ملازم الأركان ! أنا لم أبتعد عن الخيمة (
أقبل الجنود على جيرشيل … عوى بشدة ، وانسل من بين أيديهم ) . سعادتكم ، أعفوا عن
رب أسرة مسكين ! سأعطيكم عشر ورقات ، خمسة عشر ورقة ، سأعطى ، سعادتكـــم ! … (
جروه إلى شجرة البتولا ) ارحمونى ! أعفوا عنى ! يا سيدى ملازم الأركان ! سعادتكم !
يا سيـدى الجنرال ! والقائد العام !
وضعوا الأنشوطة فى رقبته … أغمضتُ عينيىَّ وانطلقتُ أعدو .
بقيتُ أسبوعين تحت التوقيف . وقالوا لى أن أرملة المسكين جيرشيل حضرت من أجل ثياب
الراحل ، فأمر لها الجنرال بمائة روبل . بعد ذلك لم أر سارا . جُرِحْتُ ، فأرسلونى
إلى المستشفى ، وعندما تماثلتُ للشفاء كانت دانتسيج قد استسلمت ـ ولحقتُ بفوجى على
ضفاف الراين .


_______


* العنوان الأصلى للقصة : " جِيِدْ " بكسر الجيم وتعطيشها وكسر الياء
وتسكين الدال ، وهى اللفظة الشعبية التى يطلقها الروس على اليهود منذ أكثر من
أربعة قرون . والكلمة لها تاريخ فلسفى ـ دينى ويتطابق معناها مع الكلمة الانجليزية
JUDAS والتى تعنى ضمنا وصراحة يهوذا أو الخائن .
وفى هذه القصة لم يستخدم المؤلف كلمة يهودى بمعناها الروسى إلا ثلاث مرات على لسان
الجنرال ، بينما استخدم كلمة " جيد " طوال القصة بداية من العنوان ـ
المترجم .
** من قصيدة للشاعر الروسى ميخائيل ليرمونتوف بعنوان " زوجة أمين الصندوق
" ـ تعليق المؤلف .
*** استمر حصار القوات الروسية وحلفائها لقلعة دانتسيج ( التى كانت موجودة آنذاك
فى بولندا التى كانت بدورها جزء من روسيا أثناء هجوم نابليون على روسيا عام 1812م
) من منتصف يناير حتى نهاية ديسمبر 1813م ، وانتهى الحصار بالتسليم الكامل بدون
قيد أو شرط ، واستسلام الحامية كلها للأسر . وفى لحظة الاستسلام كان نابليون قد
تراجع إلى ما وراء الراين ـ المترجم .
**** ورد فى أساطير التوراة ، أثناء خروج اليهود من مصر إلى الأراضى الكنعانية ،
أن دافان وعفرون قد تآمرا ضد موسى وراحا يحضان الناس على العودة إلى أرض مصر . وقد
لعن موسى المتآمرين بقوله : فلتميد الأرض من تحتكم أنتم وأسركم وممتلكاتكم .


- ترجمة : أشرف صباغ -













نسخة من الدرس
من موقع سرد - قصص و روايات


POWERED
BY: SaphpLesson3.0

#1 - كتب 26/2/2013, 16:09
https://h-mob.yoo7.com/ https://www.facebook.com/hozaifa01 https://twitter.com/hozaifa01

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

IP



جميع الحقوق محفوظة لـ © منتدى الحاسب والجوال العربي