وفي الليلة الثانية والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين الخامس قال:إني آمر بعض
الخدامين أن يرمي كيساً فيه خمسمائة دينار للمواشط فإذا أخذته آمرهن أن
يدخلنني عليها لا أنظر إليها ولا أكلمها احتقاراً لها لأجل أن يقال أني
عزيز النفس حتى تجيء أمها وتقبل رأسي ويدي وتقول لي يا سيدي انظر جاريتك
فإنها تشتهي قربك فأجبر خاطرها بكلمة فلم أرد عليها جواباً ولم تزل كذلك
تستعطفني حتى تقوم وتقبل يدي ورجلي مراراً، ثم تقول: يا سيدي إن بنتي صبية
مليحة ما رأت رجلاً فإذا رأت منك الانقباض انكسر خاطرها فمل إليها وكلمها
ثم غنها تقوم وتحضر لي قدحاً وفيه شراباً ثم إن ابنتها تأخذ القدح لتعطيني
فإذا جاءتني تركتها قائمة، بين يدي وأنا متكئ على مخدة مزركشة بالذهب لأنظر
إليها من كبر نفسي وجلالة قدري حتى تظن في نفسها أني سلطان عظيم الشأن
فتقول يا سيدي بحق الله عليك، لا ترد القدح من يد جاريتك فلا أكلمها فتلح
علي وتقول: لا بد من شربه وتقدمه إلى فمي فأنفض يدي في وجهها وأرفسها وأعمل
هكذا ثم أرفس أخي برجله فجاءت في قفص الزجاج وكان في مكان مرتفع فنزل على
الأرض فتكسر كل ما فيه. ثم قال أخي هذا كله من كبر نفسي ولو كان أمره إلى
أمير المؤمنين لضربته ألف سوط وشهرته في البلد ثم بعد ذلك صار أخي يلطم على
وجهه ومزق ثيابه وجعل يبكي ويلطم على وجهه والناس ينظرون إليه وهم رائحون
إلى صلاة الجمعة فمنهم من يرمقه ومنهم من لم يفكر فيه، وهو على تلك الحالة
وراح منه رأس المال والربح ولم يزل جالساً يبكي وإذا بامرأة مقبلة إلى صلاة
الجمعة وهي بديعة الجمال تفوح منها رائحة المسك، وتحتها بغلة بردعتها من
الديباج مزركشة بالذهب ومعها عدد من الخدم فلما نظرت إلى الزجاج وحال أخي
وبكائه أخذتها الشفقة عليه ورق قلبها له وسألت عن حاله فقيل لها: إنه كان
معه طبق زجاج يتعيش منه فانكسر منه فأصابه ما تنظريه فنادت بعض الخدام
وقالت له: ادفع الذي معك إلى هذا المسكين فدفع له صرة، فأخذها فلما فتحها
وجد فيها خمسمائة دينار فكاد أن يموت من شدة الفرح، واقبل أخي بالدعاء لها
ثم عاد إلى منزله غنياً وقعد متفكراً وإذا بدق يدق الباب فقام وفتح وإذا
بعجوز لا يعرفها، فقالت له: يا ولدي اعلم أن الصلاة قد قرب زوال وقتها وأنا
بغير وضوء وأطلب منك أن تدخلني منزلك حتى أتوضأ فقال لها: سمعاً وطاعة. ثم
دخل أخي وأذن لها بالدخول وهو طائر من الفرح بالدنانير فلما فرغت أقبلت
إلى الموضع الذي هو جالس فيه وصلت هناك ركعتين ثم دعت لأخي دعاء حسناً
نشرها على ذلك وأعطاها دينارين فلما رأت ذلك قالت: سبحان الله أني أعجب ما
أحبك وأنت بسمة الصعاليك فخذ مالك عني وإن كنت غير محتاج إليه فأردده إلى
التي أعطتك إياه لما انكسر الزجاج منك فقال لها أخي: يا أمي كيف الحيلة في
الوصول إليها؟ قالت: يا ولدي إنها تميل إليك لكنها زوجة رجل موسر فخذ جميع
مالك معك فإذا اجتمعت بها فلا تترك شيئاً من الملاطفة والكلام الحسن إلا
وتفعله معها فإنك تنال من جمالها ومن مالها، جميع ما تريد فأخذ أخي جميع
الذهب وقام ومشى مع العجوز، وهو لا يصدق بذلك فلم تزل تمشي وراءها حتى وصلا
إلى باب كبير فدقته فخرجت جارية رومية فتحت الباب، فدخلت العجوز وأمرت أخي
بالدخول فدخل دار كبيرة فلما دخلها رأى فيها مجلساً كبيراً مفروشاً وسائد
مسبلة. فجلس أخي ووضع الذهب بين يديه ووضع عمامته على ركبته فلم يشعر إلا
وجارية أقبلت ما رأى مثلها الراؤون وهي لابسة أفخر القماش فقام أخي على
قدميه فلما رأته ضحكت في وجهه وفرحت به، ثم ذهبت إلى الباب وأغلقته ثم
أقبلت على أخي وأخذت يده ومضيا جميعاً إلى أن أتيا إلى حجرة منفردة فدخلاها
وإذا هي مفروشة بأنواع الديباج فجلس أخي وجلست بجانبه ولاعبته ساعة زمانية
ثم قامت وقالت له: لا تبرح حتى أجيء إليك، وغابت عنه ساعة فبينما هو كذلك
إذ دخل عليه عبد أسود عظيم الخلقة ومعه سيف مجرد يأخذ لمعانه بالبصر وقال
لأخي: يا ويلك من جاء بك إلى هذا المكان يا أخس الإنس يا ابن الزنا وتربية
الخنا فلم يقدر أخي أن يرد عليه جواباً بل انعقد لسانه في تلك الساعة،
فأخذه العبد وأعراه ولم يزل يضربه بالسيف صحفاً ضربات متعددة أكثر من
ثمانين ضربة إلى أن سقط من طوله على الأرض فرجع العبد عنه واعتقد أنه مات
وصاح صيحة عظيمة بحيث ارتجت الأرض من صوته ودوى له المكان وقال: أين
الميلحة؟ فأقبلت إليه جارية في يدها طبق مليح فيه ملح أبيض فصارت الجارية
تأخذ من ذلك الملح وتحشر الجراحات التي في جلد أخي حتى تهورت وأخي لا يتحرك
خيفة أن يعلموا أنه حي فيقتلوه ثم مضت الجارية وصاح العبد صيحة مثل الأولى
فجاءت العجوز إلى أخي وجرته من رجليه إلى سرداب طويل مظلم ورمته فيه على
جماعة مقتولين فاستقر في مكانه يومين كاملين، وكان الله سبحانه وتعالى جعل
الملح سبباً لحياته لأنه قطع سيلان عروق الدم. فلما رأى أخي في نفسه القوة
على الحركة قام من السرداب وفتح طاقة في الحائط وخرج من مكان القتلى وأعطاه
الله عز وجل الستر فمشى في الظلام واختفى في هذا الدهليز إلى الصبح فلما
كان وقت الصبح خرجت العجوز في طلب سيد آخر فخرج أخي في أثرها وهي لا تعلم
به حتى أتى منزله ولم يزل يعالج نفسه حتى بريء ولم يزل يتعهد العجوز وينظر
إليها كل وقت وهي تأخذ الناس واحد بعد واحد وتوصلهم إلى تلك الدار وأخي لا
ينطق بشيء ثم لما رجعت إليه صحته وكملت قوته عمد إلى خرقة وعمل منها كيساً
وملأه زجاجاً وشد في وسطه وتنكر حتى لا يعرفه أحد ولبس ثياب العجم وأخذ
سيفاً وجله تحت ثيابه فلما رأى العجوز قال لها بكلام العجم: يا عجوز هل
عندك ميزان يسع تسعمائة دينار؟ فقالت العجوز: لي ولد صغير صيرفي عنده سائر
الموازين فامض معي إليه قبل أن يخرج من مكانه حتى يزن لك ذهبك فقال أخي:
امشي قدامي فسارت وسار أخي خلفها حتى أتت الباب فدقته فخرجت الجارية وضحكت
في وجهه. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثالثة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المزين قال فخرجت الجارية وضحكت في
وجه أخي فقالت العجوز: أتيتكم بلحمة سمينة فأخذت الجارية بيد أخي وأدخلته
الدار التي دخلها سابقاً وقعدت عنده ساعة وقامت وقالت لأخي: لا تبرح حتى
أرجع إليك وراحت فلم يستقر أخي إلا والعبد قد أقبل ومعه السيف المجرد فقال
لأخي: قم يا مشؤوم فقام أخي وتقدم العبد فرمى راسه وسحبه من رجله إلى
السرداب ونادى: أين المليحة؟ فجاءت الجارية وبيدها الطبق الذي فيه الملح
فلما رأت أخي والسيف بيده ولت هاربة فتبعها أخي وضربها فرمى رأسها ثم نادى:
أين العجوز؟ فجاءت فقال لها: أتعرفيني يا عجوز النحس؟ فقالت: لا يا مولاي
فقال لها: أنا صاحب الدنانير الذي جئت وتوضأت عندي وصليت ثم تحيلت علي حتى
أوقعتني هنا فقالت: اتق الله في أمري فالتفت إليها وضربها بالسيف فصيرها
قطعتين ثم خرج في طلب الجارية فلما رأته طار عقلها وطلبت منه الأمان فأمنها
ثم قال لها: ما الذي أوقعك عند هذا العبد الأسود؟ فقالت: إني كنت جارية
لبعض التجار وكانت هذه العجوز تتردد علي فقالت لي يوماً من الأيام إن عندنا
فرحاً ما رأى أحد مثله فأحب أن تنظري إليه، فقلت لها: سمعاً وطاعة ثم قمت
ولبست أحسن ثيابي وأخذت معي صرة فيها مائة دينار ومضيت معها حتى أدخلتني
هذه الدار. فلما دخلت ما شعرت إلا وهذا الأسود أخذني ولم أزل عنده على هذا
الحال ثلاث سنين بحيلة العجوز الكاهنة فقال لها أخي: هل له في الدار شيء؟
فقالت: عنده شيء كثير فإن كنت تقدر على نقله فانقله فقام أخي ومشى معها
ففتحت له الصناديق فيها أكياس فبقي أخي متحيراً، فقالت له الجارية: امض
الآن ودعني هنا وهات من ينقل المال فخرج واكترى عشرة رجال، وجاء فلما وصل
إلى الباب وجده مفتوحاً ولم ير الجارية ولا الأكياس، وإنما رأى شيئاً
يسيراً من المال والقماش فعلم أنها خدعته فعند ذلك أخذ المال الذي بقي وفتح
الخزائن وأخذ جميع ما فيها من القماش ولم يترك في الجار شيئاً وبات تلك
الليلة مسروراً، فلما أصبح الصباح وجد بالباب عشرين جندياً فلما خرج عليهم
تعلقوا به وقالوا له: إن الوالي يطلبك فأخذوه وراحوا إلى الوالي، فلما رأى
أخي قال له: من أين لك هذا القماش؟ فقال أخي: أعطني الأمان فأعطاه منديل
الأمان فحدثه بجميع ما وقع له مع العجوز من الأول إلى الآخر ومن هروب
الجارية ثم قال للوالي: والذي أخذته خذ منه ما شئت ودع مااتقوت به فطلب
الوالي جميع المال والقماش وخاف أخي أن يعلم به السلطان فأخذ البعض وأعطى
أخي البعض وقال له: اخرج من هذه المدينة وإلا أشنقك فقال: السمع والطاعة
فخرج إلى بعض البلدان فخرجت عليه اللصوص فعروه وضربوه وقطعوا أذنيه فسمعت
بخبره فخرجت إليه وأخذت إليه ثياباً وجئت به إلى المدينة مسروراً ورتبت له
ما يأكله وما يشربه. وأما أخي السادس يا أمير المؤمنين وهو مقطوع الشفتين
فإنه كان فقيراً جداً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا الفانية فخرج يوماً من
الأيام يطلب شيئاً يسد به رمقه فبينما هو في بعض الطرق إذ رأى حسنه ولها
دهليز واسع مرتفع وعلى الباب خدم وأمر ونهي فسأل بعض الواقفين هناك فقال:
هي لإنسان من اولاد الملوك فتقدم أخي إلى البوابين وسألهم شيئاً فقالوا:
ادخل باب الدار تجد ما تحب من صاحبها فدخل الدهليز ومشى فيه ساعة حتى وصل
إلى دار في غاية ما يكون من الملاحة والظرف وفي وسطها بستان ما رأى الراؤون
أحسن منه وأرضها مفروشة بالرخام وستورها مسبولة فصار أخي لا يعرف أين يقصد
فمضى نحو صدر المكان فرأى أنساناً حسن الوجه واللحية فلما رأى أخي قام
إليه ورحب به وسأله عن حاله فأخبره أنه محتاج، فلما سمع كلام أخي أظهر غماً
شديداً ومد يده إلى ثيابه ومزقها وقال: هل أكون أنا ببلد وأنت بها جائع
لأصبر من ذلك ووعده بكل خير ثم قال: لا بد أن تمالحني فقال: يا سيدي ليس لي
صبر وإني شديد الجوع فصاح: يا غلام هات الطشت والإبريق ثم قال له: يا ضيفي
تقدم واغسل يدك ثم أومأ كأنه يغسل يده ثم صاح على أتباعه أن قدموا المائدة
فجعلت أتباعه تغدو وترجع كأنها تهيء السفرة، ثم أخذ أخي وجلس معه على تلك
السفرة الموهومة وصار صاحب المنزل يومئ ويحرك شفته كأنه يأكل ويقول لأخي:
كل ولا تستحي فإنك جائع وأنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع، فجعل أخي يومئ
كأنه يأكل وهو يقول لأخي: كل وانظر هذا الخبز وانظر بياضه وأخي لا يبدي
شيئاً، ثم إن أخي قال في نفسه: إن هذا الرجل يحب أن يهزأ بالناس.
فقال: يا سيدي عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز ولا ألذ من طعمه
فقال: هذا خبزته جارية لي كنت اشتريتها بخمسمائة دينار، ثم صاح صاحب الدار:
يا غلام قدم لنا الكباب الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك، ثم قال لأخي:
كل يا ضيفي فإنك شديد الجوع ومحتاج إلى الأكل، فصار أخي يدور حنكه ويمضغ
كأنه يأكل وأقبل الرجل يستدعي لوناً ب د لون من الطعام ولا يحضر شيئاً
ويأمر أخي بالأكل، ثم قال: يا غلام قدم لنا الفراريج المحشوة بالفستق ثم
قال: كل ما لم تأكل مثله قط فقال: يا سيدي إن هذا الأكل لا نظير له في
اللذة وأقبل يومئ بيده إلى فم أخي حتى كأنه يلقمه بيده وكان يعدد هذه
الألوان ويصفها لأخي بهذه الأوصاف وهو جائع، فاشتد جوعه وصار بشهوة رغيف من
شعير. ثم قال له صاحب الدار: هل رأيت أطيب من أباريز هذه الأطعمة فقال له
أخي: لا يا سيدي فقال: كثر الأكل ولا تستح فقال: قد اكتفيت من الطعام فصاح
الرجل على أتباعه أن قدموا الحلويات فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم قدموا
الحلويات ثم قال صاحب المنزل لأخي: كل من هذا النوع فإنه جيد وكل من هذه
القطائف بحياتي وخذ هذه القطيفة قبل أن ينزل منها لجلاب فقال له أخي: لا
عدمتك يا سيدي وأقبل أخي يسأله عن كثرة المسك الذي في القطائف فقال له: إن
هذه عادتي في بيتي فدائماً يضعون لي في كل قطيفة مثقالاً من المسك ونصف
مثقال من العنبر. هذا كله وأخي يحرك رأسه وفمه يلعب بين شدقيه كأنه يتلذذ
بأكل الحلويات، ثم صاح صاحب الدار على أصحابه أن أحضروا النقل فحركوا
أيديهم في الهواء كأنهم أحضروا النقل وقال لأخي: كل من هذا اللوز ومن هذا
الجوز ومن هذا الزبيب ونحو ذلك وصار يعد له أنواع النقل ويقول له: كل ولا
تستح. فقال أخي: يا سيدي قد اكتفيت ولم يبق لي قدرة على أكل شيء فقال: يا
ضيفي إن أردت أن تأكل وتتفرج على غرائب المأكولات فالله الله لا تكن
جائعاً. ثم فكر أخي في نفسه وفي استهزاء ذلك الرجل به وقال: لأعملن فيه
عملاً يتوب بسببه إلى الله عن هذه الفعال. ثم قال الرجل لأتباعه: قدموا لنا
الشراب فحركوا أيديهم في الهواء حتى كأنهم قدموا الشراب، ثم أومأ صاحب
المنزل كأنه ناول أخي قدحاً قال: خذ هذا القدح فإنه يعجبك، فقال: يا سيدي
هذا من إحسانك وأومأ أخي بيده كأنه يشرب فقال له: هل أعجبك؟ فقال له: يا
سيدي ما رأيت ألذ من هذا الشراب، فقال له: اشرب هنيئاً وصحة، ثم إن صاحب
البيت أومأ وشرب ثم ناول أخي قدحاً ثانياً فخيل أنه شربه وأظهر انه سطران
ثم إن أخي غافله ورفع يده حتى بان بياض إبطه وصفعه على رقبته صفعة رن لها
المكان ثم ثنى عليه بصفعة ثانية. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.وفي الليلة الرابعة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين لما صفع صاحب الدار قال له
الرجل: ما هذا يا أسفل العالمين؟ فقال: يا سيدي أنا عبدك الذي أنعمت عليه
وأدخلته منزلك وأطعمته الزاد وأسقيته الخمر العتيق فسكر وعربد عليك ومقامك
أعلى من أن تؤاخذه بجهل فلما سمع صاحب المنزل كلام أخي ضحك ضحكاً عالياً ثم
قال: إن لي زماناً طويلاً أسخر بالناس وأهزأ بجميع أصحاب المزاح والمجون
ما رأيت منهم من له طاقة على أن أفعل به هذه السخرية ولا من له فطنة يدخل
بها في جميع أموري غيرك والآن عفوت عنك، فكن نديمي على الحقيقة ولا تفارقني
ثم أمر بإخراج عدة من أنواع الطعام المذكورة أولاً فأكل هو وأخي حتى
اكتفيا ثم انتقلا إلى مجلس الشراب فإذا فيه جوار كأن به الأقمار فغنين
بجميع الألحان واشتغلن بجميع الملاهي ثم شربا حتى غلب عليهما السكر وأنس
الرجل بأخي حتى كأنه أخوه وأحبه محبة عظيمة، وخلع عليه خلعة سنية.
فلما أصبح الصباح عادا لما كانا عليه من الأكل والشرب ولم يزالا كذلك
مدة عشرين سنة ثم أن الرجل مات وقبض السلطان على ماله واحتوى عليه فخرج أخي
من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي
أسره يعذبه ويقول له: اشتر روحك مني بالأموال وإلا أقتلك فجعل أخي يبكي
ويقول: أنا والله لا أملك شيئاً يا شيخ العرب، ولا أعرف طريق شيء من لمال
وأنا أسيرك وصرت في يدك فافعل بي ما شئت فأخرج البدوي الجبار من حزامه
سكيناً عريضة لو نزلت على رقبة جمل لقطعتها من الوريد إلى الوريد وأخذها في
يده اليمنى وتقدم إلى أخي المسكين وقطع بها شفتيه وشك عليه في المطالبة
وكان للبدوي زوجة حسنة وكان إذا أخرج البدوي تتعرض لأخي وتراوده عن نفسه
وهو يمتنع حياء من الله تعالى فاتفق أن راودت أخي يوماً من الأيام فقام
ولاعبها وأجلسها في حجره فبينما هما كذلك وإذا يزوجها داخل عليهما فلما نظر
إلى أخي قال له: ويلك يا خبيث أتريد الآن أن تفسد علي زوجتي وأخرج سكيناً
وقطع بها ذكره وحمله على جمل وطرحه فوق جبل وتركه وسار إلى حال سبيله فجاز
عليه المسافرون فعرفوه فأطعموه وأسقوه وأعلموني بخبره فذهبت إليه وحملته،
ودخلت به المدينة ورتبت له ما يكفيه وها أنا جئت عندك يا أمير المؤمنين
وخفت أن أرجع إلى بيتي قبل إخبارك، فيكون ذلك غلطاً وورائي ستة أخوة وأنا
أقوم بهم. فلما سمع أمير المؤمنين قصتي وما أخبرته به عن أخوتي، ضحك وقال:
صدقت يا صامت أنت قليل الكلام ما عندك فضول ولكن الآن أخرج من هذه المدينة
وأسكن غيرها ثم نفاني من بغداد فلم أزل سائراً في البلاد حتى طفت الأقاليم
إلى أن سمعت بموته وخلافة غيره فرجعت إلى المدينة فوجدته مات ووقعت عند هذا
الشاب وفعلت معه أحسن الفعال ولولاي أنا لقتل وقد اتهمني بشيء ما هو في
جميع ما نقله عني من الفضول وكثرة الكلام وكثافة الطبع وعدم الذوق باطل يا
جماعة. ثم قال الخياط لملك الصين، فلما سمعنا قصة المزين وتحققنا فضوله
وكثرة كلامه وأن الشاب مظلوم معه أخذنا المزين وقبضنا عليه وحبسناه وجلسنا
حوله آمنين ثم أكلنا وشربنا وتمت الوليمة على أحسن حالة ولم نزل جالسين إلى
أن أذن العصر فخرجت وجئت منزلي وعشيت زوجتي فقالت: إن طول النهار، في حظك
وأنا قاعدة في البيت حزينة فإن لم تخرجي وتفرجني بقية النهار كان ذلك سبب
فراقي منك فأخذتها وخرجت بها وتفرجنا إلى العشاء ثم رجعنا فلقينا هذا
الأحدب والسكر طافح منه وهو ينشد هذين البيتين: رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكـل الأمـر فكأنما خـمـر ولا قـدح وكأنما قدح ولا خـمـر فعزمت
عليه فأجابني وخرجت لأشتري سمكاً مقلياً فاشتريت ورجعت ثم جلسنا نأكل،
فأخذت زوجتي لقمة وقطعة سمك وأدخلتهما فمه وسدته فمات فحملته وتحايلت حتى
رميته في بيت هذا الطبيب وتحايل الطبيب، حتى رماه في بيت المباشر الذي رماه
في طريق السمسار وهذه قصة ما لقيته البارحة أما هي أعجب من قصة الحدب فلما
سمع ملك الصين هذه القصة أمر بعض حجابه أن يمضوا مع الخياط ويحضروا المزين
وقال لهم: لا بد من حضوره لأسمع كلامه ويكون ذلك سبباً في خلاصكم جميعاً،
وندفن هذا الأحدب ونواريه في التراب فإنه ميت من أمس ثم نعمل له ضريحاً
لأنه كان سبباً في اطلاعنا على هذه الأخبار العجيبة فما كان إلا ساعة حتى
جاءت الحجاب هم والخياط بعد أن مضوا إلى الحبس وأخرجوا منه المزين وساروا
به إلى أن أوقفوه بين يدي هذا الملك، فلما رآه تأمله فإذا هو شيخ كبير جاوز
التسعين أسود الوجه أبيض اللحية والحواجب مقرطم الأذنين طويل الأنف في
نفسه كبر فضحك الملك من رؤيته وقال: يا صامت أريد أن تحكي لي شيئاً من
حكاياتك فقال المزين: يا ملك الزمان ما شأن هذا النصراني وهذا بطريق
اليهودي وهذا المسلم وهذا الأحدب بينكم ميت وما سبب هذا الجمع فقال له ملك
الصين: وما سؤالك عن هؤلاء؟ فقال: سؤالي عنهم حتى يعلم الملك أني غير فضولي
ولا أشتغل بما لا يعنيني، وإنني بريء مما اتهموني به من كثرة الكلام. وأن
لي نصيباً من اسمي حيث لقبوني بالصامت كما قال الشاعر:
وكلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه أن فتشت في لقبي
فقال الملك: اشرحوا للمزين حال هذا الأحدب وما جرى له في وقت العشاء
واشرحوا له ما حكى النصراني وما حكى اليهودي وما حكى الخياط، فحكوا له
حكايات الجميع فحرك المزين رأسه وقال: والله إن هذا الشيء عجيب اكشفوا لي
عن هذا الأحدب فكشفوا له عنه فجلس عند رأسه وأخذ رأسه في حجره ونظر في وجهه
وضحك ضحكاً عالياً حتى انقلب على قفاه من شدة الضحك وقال: لكل موتة سبب من
الأسباب وموتة هذا الأحدب من عجب العجاب يجب أن تؤرخ في المسجلات ليعتبر
بما مضى ومن هو آت فتعجب الملك من كلامه وقال: يا صامت إحك لنا سبب كلامك
هذا وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الخامسة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال: يا صامت احك لنا سبب
كلامك هذا فقال: يا ملك وحق نعمتك أن الأحدب فيه الروح ثم إن المزين أخرج
من وسطه مكحلة فيها دهن ودهن رقبة الأحدب وغطاها حتى عرقت ثم أخرج كلبتين
من حديد ونزل بهما في حلقة فالتقطتا قطعة السمك بعظمها فلما أخرجها رآها
الناس بعيونهم ثم نهض الأحدب واقفاً على قدميه وعطس عطسة واستفاق في نفسه
وملس بيديه على وجهه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فتعجب الحاضرون
من الذي رأوه وعاينوه، فضحك ملك الصين حتى غشي عليه وكذلك الحاضرون وقال
السلطان: والله إن هذه القصة عجيبة ما رأيت أغرب منها ثم إن السلطان قال:
يا مسلمين يا جماعة العسكر، هل رأيتم في عمركم أحداً يموت ثم يحيا بعد ذلك
ولولا رزقه الله بهذا المزين لكان اليوم من أهل الآخرة فإنه كان سبباً
لحياته، فقالوا: والله إن هذا من العجب العجاب ثم إن ملك الصين أمر أن تسطر
هذه القصة فسطروها ثم جعلوها في خزانة الملك ثم خلع على اليهودي والنصراني
والمباشر وخلع على كل واحد خلعة سنية وجعل الخياطة خياطه ورتب له الرواتب،
وأصلح بينه وبين الأحدب وخلع على الأحدب خلعة سنية مليحة ورتب له الراتب
وجعله نديمه وأنعم على المزين وخلع عليه خلعة سنية ورتب له الرواتب، وجعل
له جامكية وجعله مزين المملكة ونديمه ولم يزالوا في ألذ العيش وأهناه إلى
أن آتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وليس هذا بأعجب من قصة الوزيرين، التي
فيها ذكر أنيس الجليس قال الملك وما حكاية الوزيرين؟'حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بالبصرة ملك من الملوك يحب
الفقراء والصعاليك ويرفق بالرعية ويهب من ماله لمن يؤمن بمحمد صلى الله
عليه وسلم وكان يقال لهذا الملك محمد بن سليمان الزيني وكان له وزيران
أحدهما يقال له المعين ابن سا وي والثاني يقال له الفضل بن خاقان وكان
الفضل ابن خاقان أكرم أهل زمانه حسن السيرة أجمعت القلوب على محبته، واتفقت
العقلاء على مشورته وكل الناس يدعون له بطول مدته لنه محضر خير مزيل الشر
والضير وكان الوزير معين بن ساوي يكره الناس ولا يحب الخير وكان محضر سوء،
وكان الناس على قدر محبتهم لفضل الدين ابن خاقان يبغضون المعين بن ساوي
بقدرة القادر ثم إن الملك محمد بن سليمان الزيني كان قاعداً يوماً من
الأيام على كرسي مملكته وحوله أرباب دولته إذ نادى وزيره الفضل بن خاقان
وقال له: إني أريد جارية لا يكون في زمانها أحسن منها بحيث تكون كاملة في
الجمال، فائقة في الاعتدال حميدة الخصال فقال أرباب الدولة: هذه لا توجد
إلا بعشرة آلاف دينار. فعند ذلك صاح السلطان على الخازندار وقال: احمل عشرة
آلاف دينار، إلى جار الفضل بن خاقان فامتثل الخازندار أمر السلطان ونزل
الوزير بعدما أمره السلطان أن يعمد إلى السوق في كل يوم ويوصي السماسرة على
ما ذكره وأنه لا تباع جارية ثمنها فوق الألف دينار حتى تعرض على الوزير
فلم تبع السماسرة جارية حتى يعرضوها عليه فامتثل الوزير أمره، واستمر على
هذا الحال مدة من الزمان ولم تعجبه جارية فاتفق يوماً من الأيام أن بعض
السماسرة أقبل على دار الوزير الفضل بن خاقان فوجده راكباً متوجهاً إلى قصر
الملك فقبض على ركابه وأنشد هذين البيتين:
يا من أعاد رميم الملك منـشـوراً أنت الوزير الذي لا زال منصوراً أحييت ما مات بين الناس من كرم لا زال سعيك عند الله مشكـورا
ثم قال: يا سيدي إن الجارية التي صدر بطلبها المرسوم الكريم قد حضرت
فقال له الوزيرعلي بها فغاب ساعة ثم حضر ومعه جارية رشيقة القد قاعدة النهد
بطرف كحيل وخد أسيل وخصر نحيل وردف ثقيل وعليها أحسن ما يكون من الثياب
ورضابها أحلى من الجلاب وقامتها تفضح غصون البان وكلامها أرق من النسيم إذا
مر على زهر البستان كما قال فيها بعض واصفيها هذه الأبيات: لها بشر مثل
الحرير ومنـطـق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر وعينان قال الله كونا
فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فيا حبها زدني جوى كـل لـيلة ويا
سلوة الأيام موعدك الحشـر ذوائبها ليل ولكـن جـبـينـهـا إذا أسفرت يوم
يلوح به الفجـر فلما رآها الوزير أعجبته غاية الإعجاب فالتفت إلى السمسار
وقال له: كم ثمن هذه الجارية؟ فقال: وقف سعرها على عشرة آلاف دينار وحلف
صاحبها أن العشرة آلاف دينار لم تجيء ثمن الفراريج التي أكلتها ولا ثمن
الخلع التي خلعتها على معلميها فإنها تعلمت الخط والنحو واللغة والتفسير
وأصول الفقه والدين والطب والتقويم والضر بالآلات المطربة، فقال الوزير علي
بسيدها فأحضره السمسار في الوقت والساعة فإذا هو رجل أعجمي عاش زمناً
طويلاً حتى صيره الدهر عظماً في جلد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.في الليلة السادسة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي صاحب الجارية لما حضر بين يدي
الوزير الفضل بن خاقان قال له الوزير: رضيت أن تأخذ في هذه الجارية عشرة
آلاف دينار من السلطان محمد بن سليمان الزيني؟ فقال العجمي: حيث كانت
للسلطان فالواجب علي ان أقدمها إليه هدية بلا ثمن. فعند ذلك أمر بإحضار
الأموال فلما حضرت وزن الدنانير للعجمي ثم أقبل النخاس على الوزير وقال: عن
إذن مولانا الوزير أتكلم فقال الوزير: هات ما عندك فقال: عندي من الرأي أن
لا تطلع بهذه الجارية إلى السلطان في هذا اليوم، فإنه قادمة من السفر
واختلفت عليها الهواء وأتعبها السفر ولكن خلها عندك في القصر عشرة أيام حتى
تستريح فيزداد جمالها ثم أدخلها الحمام وألبسها أحسن الثياب وأطلع بها إلى
السلطان فيكون لك في ذلك الحظ الأوفر، فتأمل الوزير كلام النخاس فوجده
صواباً فأتى بها إلى قصره وأخلى لها مقصورة ورتب لها كل ما تحتاج إليه من
طعام وشراب وغيره فمكثت مدة على تلك الرفاهية وكان للوزير الفضل بن خاقان
ولد كأنه البدر إذا أشرق بوجه أقمر وخد أحمر وعليه خال كنقطة عنبر وفيه
عذار أخضر كما قال الشاعر في مثله هذه الأبيات:
ورد الخدود ودونه شوك القـنـا فمن المحدث نفسه أن يجتـنـى لا تمدد
الأيدي إليه فـطـالـمـا شنوا الحروب لأن مددنا الأعينـا يا قلبه القاسـي
ورقة خـصـره هلا نقلت إلى هنا مـن هـنـا لو كان رقة خصره في قـلـبـه ما جار
قط على المحب ولا جنى يا عاذلي في حبه كـن عـاذري من لي بجسم قد تملكه
الضنـى ما الذنب إلا للفـؤاد ونـاظـري لولاهما ما كنت في هذا العنـى
وكان الصبي لم يعرف قضية هذه الجارية وكان والده أوصاها وقال لها: يا
بنتي اعلمي أني ما اشتريتك إلا سرية للملك محمد بن سليمان الزيني وإن لي
ولداً ما ترك صبية في الحارة إلا فعل بها، فاحفظي نفسك منه وأحذري أن تريه
وجهك أو تسمعيه كلامك فقالت الجارية: السمع والطاعة ثم تركها وانصرف. واتفق
بالأمر المقدر أن الجارية دخلت يوماً من الأيام الحمام الذي في المنزل وقد
حماها بعض الجواري ولبست الثياب الفاخرة فتزايد حسنها وجمالها ودخلت على
زوجة الوزير فقبلت يدها فقالت لها: نعيماً يا أنيس الجليس كيف حالك في هذا
الحمام؟ فقالت: يا سيدتي ما كنت محتاجة إلا إلى حضورك فيه، فعند ذلك قالت
سيدة البيت للجواري: هيا بنا ندخل الحمام فامتثلن أمرها ومضين وسيدتهن
بينهن وقد وكلت بباب المقصورة التي فيها أنيس الجليس جاريتين صغيرتين وقالت
لهما: لا تمكنا أحد من الدخول على الجارية فقالتا: السمع والطاعة. فبينما
أنيس الجليس قاعدة في المقصورة وإذا بابن الوزير الذي اسمه علي نور الدين
قد دخل وسأل عن أمه وعن العائلة، فقالت له الجاريتان: دخلوا الحمام،و قد
سمعت الجارية أنيس الجليس كلام علي نور الدين بن الوزير وهي من داخل
المقصورة. فقالت في نفسها: ياترى ما شأن هذا الصبي الذي قال لي الوزير عنه
أنه ما خلا بصبية في الحارة الا وأوقعها والله أني أشتهي أن أنظره.ثم أنها
نهضت على قدميها وهي بأثر الحمام وتقدمت جهة باب المقصورة ونظرت إلى علي
نور الدين فإذا هو كالبدر في تمامهفأورثتها النظرة ألف حسرة ولاحت من الصبي
التفاتة إليها فنظرها نظرة اورثته ألف حسرة ووقع كل منهما في شرك هوى
الآخر، فتقدم الصبي إلى الجاريتين وصاح عليهما فهربتا من بين يديه ووقفا من
بعيد ينظرانه وينظران ما يفعل، وإذا به تقدم من باب المقصورة وفتحه ودخل
على الجارية وقال لها: أنت التي اشتراك أبي؟ فقالت له: نعم، فعند ذلك تقدم
الصبي إليها وكان في حال السكر وأخذ رجليها وجعلها في وسطه وهي شبكت يدها
في عنقه واستقبلته بتقبيل وشهيق وغنج ومص لسانها ومصت لسانه فأزال بكارتها
فلما رأت الجاريتان سيدهما الصغير داخلاً على الجارية أنيس الجليس صرختا
وكان قد قضى الصبي حاجته وفر هارباً للنجاة من الخوف عقب الفعل الذي فعله.
فلما سمعت سيدة البيت صراخ الجاريتين مضت من الحمام والعرق يقطر منها
وقالت: ما سبب هذا الصراخ الذي في الدار، فلما قربت من الجاريتين اللتين
أقعدتهما على باب المقصورة قالت لهما: ويلكما ما الخبر، فلما رأياها قالتا:
إن سيدي نور الدين جاء وضربنا فهربنا منه فدخل أنيس الجليس وعانقها ولا
ندري أي شيء عمل بعد ذلك، فلما صحا هرب. فعند ذلك تقدمت سيدة البيت إلى
أنيس الجليس وقالت لها: ما الخبر؟ فقالت لها: يا سيدتي أنا قاعدة وإذا بصبي
جميل الصورة دخل علي وقال لي: أنت التي اشتراك أبي لي؟ فقلت نعم والله يا
سيدتي اعتقدت أن كلامه صحيح فعند ذلك أتى إلي وعانقني، فقالت لها: هل فعل
بك شيء غير ذلك؟ قالت: نعم، وأخذ مني ثلاث قبلات فقالت: ما تركك من غير
افتضاض. ثم بكت ولطمت على وجهها هي والجواري خوفاً على علي نور الدين أن
يذبحه أبوه. فبينما هم كذلك وإذا بالوزير دخل وسأل عن الخبر فقالت له
زوجته: أحلف أن ما أقوله لك تسمعه قال: نعم فأخبرته بما فعله ولده فحزن
ومزق ثيابه ولطم على وجهه ونتف لحيته، فقالت له زوجته: لا تقتل نفسك أنا
أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها، فعند ذلك رفع رأسه إليها وقال لها:
ويلك أنا ما لي حاجة بثمنها ولكن خوفي أن تروح روحي ومالي فقالت له: يا
سيدي ما سبب ذلك؟ فقال لها: أما تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يقال له:
المعين بن ساوي، ومتى سمع هذا الأمر تقدم إلى السلطان وقال له.. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السابعة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال لزوجته: أما تعلمين أن
وراءنا عدواً يقال له المعين بن ساوي ومتى سمع بهذا الأمر تقدم إلى السلطان
وقال له: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار واشترى بها
جارية ما رأى أحد مثلها فلما أعجبته قال لابنه: خذها أنت أحق بها من
السلطان فأخذها وأزال بكارتها وها هي الجارية عنده فيقول الملك تكذب فيقول
للملك عن إذنك أهجم عليه وآتيك بها فيأذن له في ذلك فيهجم على الدار ويأخذ
الجارية ويحضرها بين يدي السلطان ثم يسألها فلا تقدر أن تنكر فيقول له يا
سيدي أنت تعلم أني ناصح لك ولكن ما لي عندكم حظ فيمثل بي السلطان والناس
كلهم يتفرجون علي وتروح روحي. فقالت له زوجته: لا تعلم أحد وسلم أمرك إلى
الله في هذه القضية فعند ذلك سكن قلب الوزير وطاب خاطره. هذا ما كان من أمر
الوزير، وأما ما كان من أمر علي نور الدين فإنه خاف عاقبة الأمر فكان يقضي
نهاره في البساتين ولا يأتي إلا في آخر الليل لأمه فينام عندها ويقوم قبل
الصبح ولا يراه أحد،ولم يزل كذلك شهراً وهو لم ير وجه أبيه، فقالت أمه
لأبيه: يا سيدي هل تعدم الجارية وتعدم الولد، فإن طال هذا الأمر على الولد
هج، قال لها: وكيف العمل؟ قالت: أسهر هذه الليلة فإذا جاء فأمسكه واصطلح
أنت وإياه وأعطه الجارية إنها تحبه وهو يحبها وأعطيك ثمنها. فسهر الوزير
طول الليل فلما أتى ولده أمسكه وأراد نحره فأدركته أمه وقالت له: أي شيء
تريد أن تفعل معه؟ فقال لها: أريد أن أذبحه فقال الولد لأبيه: هل أهون
عليك؟ فتغرغرت عيناه بالدموع وقال له: يا ولدي كيف هان عليك ذهاب مالي
وروحي؟ فقال الصبي: اسمع يا والدي مقال الشاعر: هبني جنيت فلم تزل أهل
النهـي يهبون للجاني شماحـاً شـامـلا ماذا عسى يرجو عدوك وهو فـي درك
الحضيض وأنت أعلى منزلا فعند ذلك قام الوزير من على صدر ولده وأشفق عليه
وقام الصبي وقبل يد والده فقال: يا ولدي لو علمت أنك تنصف أنيس الجليس كنت
وهبتها لك، فقال يا والدي كيف لا أنصفها قال: أوصيك يا ولدي أنك لا تتزوج
عليها ولا تضاررها ولا تبعها، قال له: يا والدي أنا أحلف لك أن لا أتزوج
عليها، ولا أبيعها ثم حلف له أيماناً على ما ذكر ودخل على الجارية فأقام
معها سنة، وأنسى الله تعالى الملك قصة الجارية. وأما المعين بن ساوي فإنه
بلغه الخبر ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان فلما مضت
السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام وخرج وهو عرقان، فأصابه
الهواء فلزم الوساد وطال به السهاد وتسلسل به الضعف فعند ذلك نادى ولده علي
نور الدين فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي أن الرزق مقسوم والأجل محتوم
ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون وأنشد هذه الأبيات: من فاته الموت لـم
يفـتـه غـدا والكل منا على حوض الردى وردا سوى العظم بمن قد كان محتـقـرا
ولم يدع هبة بـين الـورى أحـدا لم يبق من ملك كـلا ولا مـلـك ولا نـبـي
يعـيش دائمـاً أبــدا ثم قال: يا ولدي مالي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر
في العواقب وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس فقال له: يا أبت ومن مثلك وقد
كنت معروفاً بفعل الخير ودعاء الخطباء لك على المنابر فقال: يا ولدي أرجو
من الله تعالى القبول ثم نطق الشهادتين وشهق شهقة فكتب من أهل السعادة فعند
ذلك امتلأ القصر بالصراخ ووصل الخبر إلى السلطان وسمعت أهل المدينة بوفاة
الفضل بن خاقان فبكت عليه الصبيان في مكاتبها ونهض ولده علي نور الدين
وجهزه وحضرت الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهده وكان ممن
حضروا الجنازة الوزير المعين بن ساوي وأنشد بعضهم عند خروج جنازته من الدار
هذه الأبيات:
قد قلت للرجل المولى غسلـه هلا أطعت وكنت من نصائحه جنبه ماءك ثم غسـلـه
بـمـا أذرت عيون المجد عند بكـائه وأزل مجاميع الحنوط ونحهـا عنه وحنطه
بطـيب ثـنـائه ومر الملائكة الكرام بحمـلـه شرفاً ألست تراهموا بـإزائه
لاتوه أعناق الرجال بحمـلـه يكفي الذي حملوه من نعمـائه
ثم مكث علي نور الدين، شديد الحزن على والده مدة مديدة فبينما هو جالس
يوماً من الأيام في بيت والده إذ طرق الباب طارق فنهض علي نور الدين وفتح
الباب وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه فقبل يد علي نور الدين، وقال: يا
سيدي من خلف مثلك ما مات وهذا مصير سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه
وسلم يا سيدي طب نفساً ودع الحزن فعند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة
الجلوس ونقل إليها ما يحتاج إليه واجتمع عليه أصحابه وأخذ جاريته واجتمع
عليه عشرة من أولاد التجار ثم إنه أكل الطعام وشرب الشراب وجدد مقاماً بعد
مقام وصار يعطي ويتكرم، فعند ذلك دخل عليه وكيله وقال له: يا سيدي علي نور
الدين أما سمعت قول بعضهم من ينفق ولم يحسب افتقر، ولقد أحسن من قال هذه
الأبيات: أصون دراهمي وأذب عنـهـا لعلمي أنها سيفـي وتـرسـي أأبذلهـا إلـى
أعـدا الأعـادي وأبذل في الورى سعدي بنحسي فيأكلها ويشـربـهـا هـنـيئاً ولا
يسخو لي أحـد بـفـلـس وأحفظ درهمي عن كل شخص لئيم الطبع لا يصفو لأنـسـي
أحب إلي مـن قـول لـنـذل أنلني درهماً لغـد بـخـمـس فيعرض وجهه ويصـدعـنـي
فتبقى مثل نفس الكلب نفسـي فيا ذل الرجـال بـغـير مـال ولو كانت فضائلهم
كشـمـس ثم قال: يا سيدي النفقة الجزيلة والمواهب العظيمة تفني المال فلما
سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام نظر إليه وقال له: جميع ما قلته لا
أسمع منه كلمة فما أحسن قول الشاعر: أنا ما ملكت المال يوماً ولـم أجـد فلا
بسطت كفي ولا نهضت رجلي فهاتوا بخيلاً نال مجداً بـبـخـلـه وهاتوا أروني
باذلاً مات من بـذل ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما
يكفيني لغدائي أن لا تحملني هم عشائي فانصرف الوكيل من عنده إلى حال سبيله
وأقبل علي نور الدين ما هو فيه من مكارم الأخلاق وكل من يقول له من ندمائه
أن هذا الشيء مليح يقول هو لك هبة أو يقول سيدي أن الدار الفلانية مليحة
يقول هي لك هبة ولم يزل علي نور الدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار
مجلساً وفي آخره مجلساً ومكث على هذا الحال سنة كاملة فبينما هو جالساً
يوماً وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين: أحسنت ظنك بالأيام إذا حسنـت ولم
تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بهـا عند صفو الليالي
يحدث الكـدر فلما فرغت من شعرها إذا بطارق يطرق الباب فقام علي نور الدين
فتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم به فلما فتح الباب رآه وكيله فقال له علي
نور الدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي الذي كنا أخافه عليك منه قد وقع لك
قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهماً ولا أقل
من درهم وهذه دفاتر المصروف الذي صرفته ودفاتر أصل مالك، فلما سمع علي نور
الدين هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله فلما
سمع الرجل الذي تبعها خفية، وخرج ليسأل عليه وماقاله الوكيل رجع إلى
أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون فإن علي نور الدين قد أفلس فلما رجع
إليهم علي نور الدين قد أفلس فلما رجع إليهم علي نور الدين ظهر لهم الغم
في وجهه فعند ذلك نهض واحد من الندماء على قدميه، ونظر إلى علي نور الدين
وقال له: يا سيدي إني أريد أن تأذن لي بالانصراف، فقال علي نور الدين:
لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: إن زوجتي تلد في هذه الليلة ولا يمكنني
أن أتخلف عنها واريد أن أذهب إليها وأنظرها فأذن له ونهض آخر وقال له: يا
سيدي نور الدين أريد اليوم أن أحضر عند أخي فإنه يطاهر ولده وكل واحد
يستأذنه إلى حال سبيله حتى انصرفوا كلهم وبقي علي نور الدين وحده فعند ذلك
دعا جاريته وقال: يا أنيس الجليس أما تنظرين ما حل بي وحكى لها ما قاله
الوكيل فقالت: يا سيدي منذ ليال هممت أن أقول لك على هذا الحال فسمعتك تنشد
هذين البيتين:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بهـا على الناس طرأ قبل ان تتفلت فلا جود يفنيها إذا هي أقبلـت ولا الشح يبقيها إذا هي ولـت
فلما سمعتك تنشدهما ولم أبد لك خطاباً فقال لها: يا أنيس الجليس أنت
تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي وأظنهم لا يتركونني من غير مؤاساة،
فقالت أنيس الجليس: والله ما ينفعونك بنافعة، فقال علي نور الدين: فأنا في
هذه الساعة أقوم واروح إليهم وأطرق أبوابهم لعلي أنال منهم شيئاً فأجعله
في يدي رأس مال وأتجر فيه وأترك اللهو واللعب. ثم إنه نهض من وقته وساعته
وما زال سائراً حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة وكانوا كلهم
ساكنين في ذلك الزقاق، فتقدم إلى أول باب وطرقه فخرجت له جارية وقالت له:
من أنت؟ فقال: قولي لسيدك علي نور الدين واقف في الباب ويقول لك مملوكك
يقبل أياديك وينتظر فضلك، فدخلت الجارية وأعلمت سيدها فصاح عليها وقال لها:
ارجعي وقول له: ما هو هنا، فرجعت الجارية إلى علي نور الدين وقالت له: يا
سيدي إن سيدي ما هو هنا، فتوجه علي نور الدين وقال في نفسه: إن كان هذا ولد
زنا وأنكر نفسه فغيره ما هو ولد زنا، ثم تقدم إلى الباب الثاني وقال كما
قال أولاً فأنكر الآخر نفسه فعند ذلك أنشد هذا البيت: ذهب الذين إذا وقفت
ببابهـم منوا عليك بما تريد من الندى فلما فرغ من شعره قال: والله لا بد أن
أمتحنهم كلهم عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع، فدار على العشرة
فلم يجد أحداً منهم فتح له الباب ولا أراه نفسه ولا أمر له برغيف فأنشد هذه
الأبيات: المرء في زمن الإقبال كالشجـرة فالناس من حولها ما دامت الثمرة
حتى إذا أسقطت كل الذي حملت تفرقوا وأرادوا غيرها شـجـرة تباً لأبناء هذا
الـدهـر كـلـهـم فلم أجد واحداً يصفو من العشرة ثم إنه رجع إلى جاريته وقد
تزايد همه فقالت له: يا سيدي أما قلت لكإنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال:
والله ما فيهم من أراني وجهه فقالت له: يا سيدي بع من أثاث البيت شيئاً
فشيئاً وأنفق فباع إلى أن باع جميع ما في البيت ولم يبق عنده شيء، فعند ذلك
نظر إلى أنيس الجليس وقال لها: ماذا نفعل الآن؟ قالت له: يا سيدي عندي من
الرأي أن تقوم في هذه الساعة وتنزل إلى السوق فتبيعني وأنت تعلم أن والدك
كان قد اشتراني بعشرة آلاف دينار فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا
قدر الله باجتماعنا نجتمع، فقال لها: يا أنيس الجليس ما يهون علي فراقك
ساعة واحدة، فقالت له: ولا أنا كذلك لكن للضرورة أحكام كما قال الشاعر:
تلجئ الضرورات في الأمور إلى سلـوك مـا لا يلـيق بـالأدب ما حامل نفسه
عـلـى سـبـب إلا لأمـر يلـيق بـالـسـبـب فعند ذلك أخذت دموع أنيس الجليس
تسيل على خديه، ثم أنشد هذين البيتين: قفوا زودوني نظرة قبل فراقكم أعلل
قلباً كاد بالبـين يتـلـف فإن كان تزويدي بذلك كـلـفة دعوني في وجدي ولا
تتكلفوا ثم مضى وسلمها إلى الدلال وقال له: أعرف مقدار ما تنادي عليه فقال
له الدلال: يا سيدي علي نور الدين الأصول محفوظة، ثم قال له: أها هي أنيس
الجليس الذي كان اشتراها والدك مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، فعند ذلك
طلع الدلال إلى التجار فوجدهم لم يجتمعوا كلهم فصبر حتى اجتمع سائر التجار
وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية
فلما نظر الدلال إلى ازدحام السوق نهض قائماً وقال: يا تجار يا أرباب
الأموال ما كل مدور جوزة ولا كل مستطيلة موزة ولا كل حمراء لحمة ولا كل
بيضاء شحمة ولا كل صهباء خمرة ولا كل سمراء تمرة، يا تجار هذه الدرة
اليتيمة التي لا تفي الأموال لها بقية بكم تفتحون باب الثمن، فقال واحد
بأربعة آلاف دينار وخمسمائة، وإذا بالوزير المعين بن ساوي في السوق فنظر
علي نور الدين واقفاً في السوق فقال في نفسه: ما باله واقفاً فإنه ما بقي
عنده شيء يشتري به جواري، ثم نظر بعينيه فسمع المنادي وهو واقف ينادي في
السوق والتجار حوله. فقال الوزير في نفسه: ما أظنه إلا أفلس ونزل بالجارية
ليبيعها، ثم قال في نفسه إن صح ذلك فما أبرده على قلبي، ثم دعا المنادي
فأقبل عليه وقبل الأرض بين يديه فقال: إني أريد هذه الجارية التي تنادي
عليها فلم يمكنه المخالفة فجاء بالجارية وقدمها بين يديه، فلما نظر إليها
وتأمل محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة أعجبتها فقال له: إلى كم
وصل ثمنها فقال: أربعة آلاف وخمسمائة دينار، فلما سمع ذلك التجار ما قدر
واحد منهم أن يزيد درهماً ولا ديناراً بل تأخروا لمايعلمون من ظلم ذلك
الوزير. ثم نظر الوزير معين بن ساوي إلى الدلال وقال: ما سبب وقوفك، رح
والجارية على أربعة آلاف ولك خمسمائة دينار، فراح الدلال إلى علي نور الدين
وقال له: راحت الجارية عليك بلا ثمن فقال له: وماسبب ذلك؟ فقال له: نحن
فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف وخمسمائة دينار فجاء هذا الظالم المعين بن
ساوي ودخل السوق فلما نظر الجارية أعجبته وقال لي شاور على أربعة آلاف ولك
خمسمائة وما أظنه إلا يعرف أن الجارية لك فإن كان يعطيك ثمنها في هذه
الساعة يكون ذلك من فضل الله، لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة حوالة
على بعض عملائه ثم يرسل إليهم ويقول: لا تعطوه شيئاً فكلما ذهبت إليهم
لتطالبهم يقولون: في غد نعطيك ولا يزالون يعدونك ويخلفون يوماً بعد يوم
وأنت عزيز النفس، وبعد أن يضجوا من مطالبتك إياهم يقولون أعطنا ورقة
الحوالة إذا أخذوا الورقة منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية. فلما سمع علي
نور الدين من الدلال هذا الكلام نظر إليه وقال له: كيف يكون العمل؟ فقال
له: أنا أشير عليك بمشورة فإن قبلتها مني كان لك الحظ الأوفر قال: تجيء في
هذه الساعة عندي وأنا واقف وسط السوق وتأخذ الجارية من يدي وتلكمها وتقول
لها: ويلك قد فديت يميني التي حلفتها ونزلت بك السوق حيث حلفت عليك أنه لا
بد من إخراجك إلى السوق ومناداة الدلال عليك فإن فعلت ذلك ربما تدخل عليه
الحيلة وعلى الناس ويعتقدون أنك ما نزلت بها إلا لأجل إبراز اليمين، فقال
هذا هو الرأي الصائب، ثم إن الدلال فارقه وجاء إلى وسط السوق وأمسك يد
الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوي وقال: يا مولاي هذا مالكها قد
اقبل ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال ونزع الجارية من يده ولكمها وقال:
ويلك قد نزلت بك إلى السوق لأجل إبرار يميني. روحي إلى البيت وبعد ذلك لا
تخالفيني فلست محتاجاً إلى ثمنك حتى أبيعك وأنا لو بعت أثاث البيت وأمثاله
مرات عديدة ما بلغ قدر ثمنك. فلما نظر المعين بن ساوي إلى علي نور الدين
قال له: ويلك وهل بقي عندك شيء يباع ويشترى، ثم إن المعين بن ساوي أراد أن
يبطش به فعند ذلك نظر التجار إلى علي نور الدين وكانوا كلهم يحبونه فقال
لهم: ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه، فقال الوزير: والله لولا أنتم
لقتلته، ثم رمزوا كلهم إلى بعضهم بعين الإشارة وقالوا: ما أحد منا يدخل
بينك وبينه، فعند ذلك تقدم علي نور الدين إلى الوزير بن ساوي وكان علي نور
الدين شجاعاً فجذب الوزير من فوق سرجه فرماه إلى الأرض وكان هناك معجنة طين
فوقع الوزير في وسطها وجعل نور الدين يلكمه فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت
لحيته بدمه وكان مع الوزير عشرة مماليك فلما رأوا نور الدين يفعل بسيدهم
هذه الأفعال وضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم وأرادوا أن يهجموا على نور
الدين ويقطعونه وإذا بالناس قالوا للمماليك: هذا وزير وهذا ابن وزير وربما
اصطلحا مع بعضهما وتكونون مبغوضين عند كل منهما وربما جاءت فيه ضربة
فتموتون جميعاً اقبح الموتات ومن الرأي أن لا تدخلوا بينهما، فلما فرغ علي
نور الدين من ضرب الوزير أخذ جاريته ومضى إلى داره وأما الوزير ابن ساوي
ف
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين الخامس قال:إني آمر بعض
الخدامين أن يرمي كيساً فيه خمسمائة دينار للمواشط فإذا أخذته آمرهن أن
يدخلنني عليها لا أنظر إليها ولا أكلمها احتقاراً لها لأجل أن يقال أني
عزيز النفس حتى تجيء أمها وتقبل رأسي ويدي وتقول لي يا سيدي انظر جاريتك
فإنها تشتهي قربك فأجبر خاطرها بكلمة فلم أرد عليها جواباً ولم تزل كذلك
تستعطفني حتى تقوم وتقبل يدي ورجلي مراراً، ثم تقول: يا سيدي إن بنتي صبية
مليحة ما رأت رجلاً فإذا رأت منك الانقباض انكسر خاطرها فمل إليها وكلمها
ثم غنها تقوم وتحضر لي قدحاً وفيه شراباً ثم إن ابنتها تأخذ القدح لتعطيني
فإذا جاءتني تركتها قائمة، بين يدي وأنا متكئ على مخدة مزركشة بالذهب لأنظر
إليها من كبر نفسي وجلالة قدري حتى تظن في نفسها أني سلطان عظيم الشأن
فتقول يا سيدي بحق الله عليك، لا ترد القدح من يد جاريتك فلا أكلمها فتلح
علي وتقول: لا بد من شربه وتقدمه إلى فمي فأنفض يدي في وجهها وأرفسها وأعمل
هكذا ثم أرفس أخي برجله فجاءت في قفص الزجاج وكان في مكان مرتفع فنزل على
الأرض فتكسر كل ما فيه. ثم قال أخي هذا كله من كبر نفسي ولو كان أمره إلى
أمير المؤمنين لضربته ألف سوط وشهرته في البلد ثم بعد ذلك صار أخي يلطم على
وجهه ومزق ثيابه وجعل يبكي ويلطم على وجهه والناس ينظرون إليه وهم رائحون
إلى صلاة الجمعة فمنهم من يرمقه ومنهم من لم يفكر فيه، وهو على تلك الحالة
وراح منه رأس المال والربح ولم يزل جالساً يبكي وإذا بامرأة مقبلة إلى صلاة
الجمعة وهي بديعة الجمال تفوح منها رائحة المسك، وتحتها بغلة بردعتها من
الديباج مزركشة بالذهب ومعها عدد من الخدم فلما نظرت إلى الزجاج وحال أخي
وبكائه أخذتها الشفقة عليه ورق قلبها له وسألت عن حاله فقيل لها: إنه كان
معه طبق زجاج يتعيش منه فانكسر منه فأصابه ما تنظريه فنادت بعض الخدام
وقالت له: ادفع الذي معك إلى هذا المسكين فدفع له صرة، فأخذها فلما فتحها
وجد فيها خمسمائة دينار فكاد أن يموت من شدة الفرح، واقبل أخي بالدعاء لها
ثم عاد إلى منزله غنياً وقعد متفكراً وإذا بدق يدق الباب فقام وفتح وإذا
بعجوز لا يعرفها، فقالت له: يا ولدي اعلم أن الصلاة قد قرب زوال وقتها وأنا
بغير وضوء وأطلب منك أن تدخلني منزلك حتى أتوضأ فقال لها: سمعاً وطاعة. ثم
دخل أخي وأذن لها بالدخول وهو طائر من الفرح بالدنانير فلما فرغت أقبلت
إلى الموضع الذي هو جالس فيه وصلت هناك ركعتين ثم دعت لأخي دعاء حسناً
نشرها على ذلك وأعطاها دينارين فلما رأت ذلك قالت: سبحان الله أني أعجب ما
أحبك وأنت بسمة الصعاليك فخذ مالك عني وإن كنت غير محتاج إليه فأردده إلى
التي أعطتك إياه لما انكسر الزجاج منك فقال لها أخي: يا أمي كيف الحيلة في
الوصول إليها؟ قالت: يا ولدي إنها تميل إليك لكنها زوجة رجل موسر فخذ جميع
مالك معك فإذا اجتمعت بها فلا تترك شيئاً من الملاطفة والكلام الحسن إلا
وتفعله معها فإنك تنال من جمالها ومن مالها، جميع ما تريد فأخذ أخي جميع
الذهب وقام ومشى مع العجوز، وهو لا يصدق بذلك فلم تزل تمشي وراءها حتى وصلا
إلى باب كبير فدقته فخرجت جارية رومية فتحت الباب، فدخلت العجوز وأمرت أخي
بالدخول فدخل دار كبيرة فلما دخلها رأى فيها مجلساً كبيراً مفروشاً وسائد
مسبلة. فجلس أخي ووضع الذهب بين يديه ووضع عمامته على ركبته فلم يشعر إلا
وجارية أقبلت ما رأى مثلها الراؤون وهي لابسة أفخر القماش فقام أخي على
قدميه فلما رأته ضحكت في وجهه وفرحت به، ثم ذهبت إلى الباب وأغلقته ثم
أقبلت على أخي وأخذت يده ومضيا جميعاً إلى أن أتيا إلى حجرة منفردة فدخلاها
وإذا هي مفروشة بأنواع الديباج فجلس أخي وجلست بجانبه ولاعبته ساعة زمانية
ثم قامت وقالت له: لا تبرح حتى أجيء إليك، وغابت عنه ساعة فبينما هو كذلك
إذ دخل عليه عبد أسود عظيم الخلقة ومعه سيف مجرد يأخذ لمعانه بالبصر وقال
لأخي: يا ويلك من جاء بك إلى هذا المكان يا أخس الإنس يا ابن الزنا وتربية
الخنا فلم يقدر أخي أن يرد عليه جواباً بل انعقد لسانه في تلك الساعة،
فأخذه العبد وأعراه ولم يزل يضربه بالسيف صحفاً ضربات متعددة أكثر من
ثمانين ضربة إلى أن سقط من طوله على الأرض فرجع العبد عنه واعتقد أنه مات
وصاح صيحة عظيمة بحيث ارتجت الأرض من صوته ودوى له المكان وقال: أين
الميلحة؟ فأقبلت إليه جارية في يدها طبق مليح فيه ملح أبيض فصارت الجارية
تأخذ من ذلك الملح وتحشر الجراحات التي في جلد أخي حتى تهورت وأخي لا يتحرك
خيفة أن يعلموا أنه حي فيقتلوه ثم مضت الجارية وصاح العبد صيحة مثل الأولى
فجاءت العجوز إلى أخي وجرته من رجليه إلى سرداب طويل مظلم ورمته فيه على
جماعة مقتولين فاستقر في مكانه يومين كاملين، وكان الله سبحانه وتعالى جعل
الملح سبباً لحياته لأنه قطع سيلان عروق الدم. فلما رأى أخي في نفسه القوة
على الحركة قام من السرداب وفتح طاقة في الحائط وخرج من مكان القتلى وأعطاه
الله عز وجل الستر فمشى في الظلام واختفى في هذا الدهليز إلى الصبح فلما
كان وقت الصبح خرجت العجوز في طلب سيد آخر فخرج أخي في أثرها وهي لا تعلم
به حتى أتى منزله ولم يزل يعالج نفسه حتى بريء ولم يزل يتعهد العجوز وينظر
إليها كل وقت وهي تأخذ الناس واحد بعد واحد وتوصلهم إلى تلك الدار وأخي لا
ينطق بشيء ثم لما رجعت إليه صحته وكملت قوته عمد إلى خرقة وعمل منها كيساً
وملأه زجاجاً وشد في وسطه وتنكر حتى لا يعرفه أحد ولبس ثياب العجم وأخذ
سيفاً وجله تحت ثيابه فلما رأى العجوز قال لها بكلام العجم: يا عجوز هل
عندك ميزان يسع تسعمائة دينار؟ فقالت العجوز: لي ولد صغير صيرفي عنده سائر
الموازين فامض معي إليه قبل أن يخرج من مكانه حتى يزن لك ذهبك فقال أخي:
امشي قدامي فسارت وسار أخي خلفها حتى أتت الباب فدقته فخرجت الجارية وضحكت
في وجهه. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثالثة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المزين قال فخرجت الجارية وضحكت في
وجه أخي فقالت العجوز: أتيتكم بلحمة سمينة فأخذت الجارية بيد أخي وأدخلته
الدار التي دخلها سابقاً وقعدت عنده ساعة وقامت وقالت لأخي: لا تبرح حتى
أرجع إليك وراحت فلم يستقر أخي إلا والعبد قد أقبل ومعه السيف المجرد فقال
لأخي: قم يا مشؤوم فقام أخي وتقدم العبد فرمى راسه وسحبه من رجله إلى
السرداب ونادى: أين المليحة؟ فجاءت الجارية وبيدها الطبق الذي فيه الملح
فلما رأت أخي والسيف بيده ولت هاربة فتبعها أخي وضربها فرمى رأسها ثم نادى:
أين العجوز؟ فجاءت فقال لها: أتعرفيني يا عجوز النحس؟ فقالت: لا يا مولاي
فقال لها: أنا صاحب الدنانير الذي جئت وتوضأت عندي وصليت ثم تحيلت علي حتى
أوقعتني هنا فقالت: اتق الله في أمري فالتفت إليها وضربها بالسيف فصيرها
قطعتين ثم خرج في طلب الجارية فلما رأته طار عقلها وطلبت منه الأمان فأمنها
ثم قال لها: ما الذي أوقعك عند هذا العبد الأسود؟ فقالت: إني كنت جارية
لبعض التجار وكانت هذه العجوز تتردد علي فقالت لي يوماً من الأيام إن عندنا
فرحاً ما رأى أحد مثله فأحب أن تنظري إليه، فقلت لها: سمعاً وطاعة ثم قمت
ولبست أحسن ثيابي وأخذت معي صرة فيها مائة دينار ومضيت معها حتى أدخلتني
هذه الدار. فلما دخلت ما شعرت إلا وهذا الأسود أخذني ولم أزل عنده على هذا
الحال ثلاث سنين بحيلة العجوز الكاهنة فقال لها أخي: هل له في الدار شيء؟
فقالت: عنده شيء كثير فإن كنت تقدر على نقله فانقله فقام أخي ومشى معها
ففتحت له الصناديق فيها أكياس فبقي أخي متحيراً، فقالت له الجارية: امض
الآن ودعني هنا وهات من ينقل المال فخرج واكترى عشرة رجال، وجاء فلما وصل
إلى الباب وجده مفتوحاً ولم ير الجارية ولا الأكياس، وإنما رأى شيئاً
يسيراً من المال والقماش فعلم أنها خدعته فعند ذلك أخذ المال الذي بقي وفتح
الخزائن وأخذ جميع ما فيها من القماش ولم يترك في الجار شيئاً وبات تلك
الليلة مسروراً، فلما أصبح الصباح وجد بالباب عشرين جندياً فلما خرج عليهم
تعلقوا به وقالوا له: إن الوالي يطلبك فأخذوه وراحوا إلى الوالي، فلما رأى
أخي قال له: من أين لك هذا القماش؟ فقال أخي: أعطني الأمان فأعطاه منديل
الأمان فحدثه بجميع ما وقع له مع العجوز من الأول إلى الآخر ومن هروب
الجارية ثم قال للوالي: والذي أخذته خذ منه ما شئت ودع مااتقوت به فطلب
الوالي جميع المال والقماش وخاف أخي أن يعلم به السلطان فأخذ البعض وأعطى
أخي البعض وقال له: اخرج من هذه المدينة وإلا أشنقك فقال: السمع والطاعة
فخرج إلى بعض البلدان فخرجت عليه اللصوص فعروه وضربوه وقطعوا أذنيه فسمعت
بخبره فخرجت إليه وأخذت إليه ثياباً وجئت به إلى المدينة مسروراً ورتبت له
ما يأكله وما يشربه. وأما أخي السادس يا أمير المؤمنين وهو مقطوع الشفتين
فإنه كان فقيراً جداً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا الفانية فخرج يوماً من
الأيام يطلب شيئاً يسد به رمقه فبينما هو في بعض الطرق إذ رأى حسنه ولها
دهليز واسع مرتفع وعلى الباب خدم وأمر ونهي فسأل بعض الواقفين هناك فقال:
هي لإنسان من اولاد الملوك فتقدم أخي إلى البوابين وسألهم شيئاً فقالوا:
ادخل باب الدار تجد ما تحب من صاحبها فدخل الدهليز ومشى فيه ساعة حتى وصل
إلى دار في غاية ما يكون من الملاحة والظرف وفي وسطها بستان ما رأى الراؤون
أحسن منه وأرضها مفروشة بالرخام وستورها مسبولة فصار أخي لا يعرف أين يقصد
فمضى نحو صدر المكان فرأى أنساناً حسن الوجه واللحية فلما رأى أخي قام
إليه ورحب به وسأله عن حاله فأخبره أنه محتاج، فلما سمع كلام أخي أظهر غماً
شديداً ومد يده إلى ثيابه ومزقها وقال: هل أكون أنا ببلد وأنت بها جائع
لأصبر من ذلك ووعده بكل خير ثم قال: لا بد أن تمالحني فقال: يا سيدي ليس لي
صبر وإني شديد الجوع فصاح: يا غلام هات الطشت والإبريق ثم قال له: يا ضيفي
تقدم واغسل يدك ثم أومأ كأنه يغسل يده ثم صاح على أتباعه أن قدموا المائدة
فجعلت أتباعه تغدو وترجع كأنها تهيء السفرة، ثم أخذ أخي وجلس معه على تلك
السفرة الموهومة وصار صاحب المنزل يومئ ويحرك شفته كأنه يأكل ويقول لأخي:
كل ولا تستحي فإنك جائع وأنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع، فجعل أخي يومئ
كأنه يأكل وهو يقول لأخي: كل وانظر هذا الخبز وانظر بياضه وأخي لا يبدي
شيئاً، ثم إن أخي قال في نفسه: إن هذا الرجل يحب أن يهزأ بالناس.
فقال: يا سيدي عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز ولا ألذ من طعمه
فقال: هذا خبزته جارية لي كنت اشتريتها بخمسمائة دينار، ثم صاح صاحب الدار:
يا غلام قدم لنا الكباب الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك، ثم قال لأخي:
كل يا ضيفي فإنك شديد الجوع ومحتاج إلى الأكل، فصار أخي يدور حنكه ويمضغ
كأنه يأكل وأقبل الرجل يستدعي لوناً ب د لون من الطعام ولا يحضر شيئاً
ويأمر أخي بالأكل، ثم قال: يا غلام قدم لنا الفراريج المحشوة بالفستق ثم
قال: كل ما لم تأكل مثله قط فقال: يا سيدي إن هذا الأكل لا نظير له في
اللذة وأقبل يومئ بيده إلى فم أخي حتى كأنه يلقمه بيده وكان يعدد هذه
الألوان ويصفها لأخي بهذه الأوصاف وهو جائع، فاشتد جوعه وصار بشهوة رغيف من
شعير. ثم قال له صاحب الدار: هل رأيت أطيب من أباريز هذه الأطعمة فقال له
أخي: لا يا سيدي فقال: كثر الأكل ولا تستح فقال: قد اكتفيت من الطعام فصاح
الرجل على أتباعه أن قدموا الحلويات فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم قدموا
الحلويات ثم قال صاحب المنزل لأخي: كل من هذا النوع فإنه جيد وكل من هذه
القطائف بحياتي وخذ هذه القطيفة قبل أن ينزل منها لجلاب فقال له أخي: لا
عدمتك يا سيدي وأقبل أخي يسأله عن كثرة المسك الذي في القطائف فقال له: إن
هذه عادتي في بيتي فدائماً يضعون لي في كل قطيفة مثقالاً من المسك ونصف
مثقال من العنبر. هذا كله وأخي يحرك رأسه وفمه يلعب بين شدقيه كأنه يتلذذ
بأكل الحلويات، ثم صاح صاحب الدار على أصحابه أن أحضروا النقل فحركوا
أيديهم في الهواء كأنهم أحضروا النقل وقال لأخي: كل من هذا اللوز ومن هذا
الجوز ومن هذا الزبيب ونحو ذلك وصار يعد له أنواع النقل ويقول له: كل ولا
تستح. فقال أخي: يا سيدي قد اكتفيت ولم يبق لي قدرة على أكل شيء فقال: يا
ضيفي إن أردت أن تأكل وتتفرج على غرائب المأكولات فالله الله لا تكن
جائعاً. ثم فكر أخي في نفسه وفي استهزاء ذلك الرجل به وقال: لأعملن فيه
عملاً يتوب بسببه إلى الله عن هذه الفعال. ثم قال الرجل لأتباعه: قدموا لنا
الشراب فحركوا أيديهم في الهواء حتى كأنهم قدموا الشراب، ثم أومأ صاحب
المنزل كأنه ناول أخي قدحاً قال: خذ هذا القدح فإنه يعجبك، فقال: يا سيدي
هذا من إحسانك وأومأ أخي بيده كأنه يشرب فقال له: هل أعجبك؟ فقال له: يا
سيدي ما رأيت ألذ من هذا الشراب، فقال له: اشرب هنيئاً وصحة، ثم إن صاحب
البيت أومأ وشرب ثم ناول أخي قدحاً ثانياً فخيل أنه شربه وأظهر انه سطران
ثم إن أخي غافله ورفع يده حتى بان بياض إبطه وصفعه على رقبته صفعة رن لها
المكان ثم ثنى عليه بصفعة ثانية. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.وفي الليلة الرابعة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين لما صفع صاحب الدار قال له
الرجل: ما هذا يا أسفل العالمين؟ فقال: يا سيدي أنا عبدك الذي أنعمت عليه
وأدخلته منزلك وأطعمته الزاد وأسقيته الخمر العتيق فسكر وعربد عليك ومقامك
أعلى من أن تؤاخذه بجهل فلما سمع صاحب المنزل كلام أخي ضحك ضحكاً عالياً ثم
قال: إن لي زماناً طويلاً أسخر بالناس وأهزأ بجميع أصحاب المزاح والمجون
ما رأيت منهم من له طاقة على أن أفعل به هذه السخرية ولا من له فطنة يدخل
بها في جميع أموري غيرك والآن عفوت عنك، فكن نديمي على الحقيقة ولا تفارقني
ثم أمر بإخراج عدة من أنواع الطعام المذكورة أولاً فأكل هو وأخي حتى
اكتفيا ثم انتقلا إلى مجلس الشراب فإذا فيه جوار كأن به الأقمار فغنين
بجميع الألحان واشتغلن بجميع الملاهي ثم شربا حتى غلب عليهما السكر وأنس
الرجل بأخي حتى كأنه أخوه وأحبه محبة عظيمة، وخلع عليه خلعة سنية.
فلما أصبح الصباح عادا لما كانا عليه من الأكل والشرب ولم يزالا كذلك
مدة عشرين سنة ثم أن الرجل مات وقبض السلطان على ماله واحتوى عليه فخرج أخي
من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي
أسره يعذبه ويقول له: اشتر روحك مني بالأموال وإلا أقتلك فجعل أخي يبكي
ويقول: أنا والله لا أملك شيئاً يا شيخ العرب، ولا أعرف طريق شيء من لمال
وأنا أسيرك وصرت في يدك فافعل بي ما شئت فأخرج البدوي الجبار من حزامه
سكيناً عريضة لو نزلت على رقبة جمل لقطعتها من الوريد إلى الوريد وأخذها في
يده اليمنى وتقدم إلى أخي المسكين وقطع بها شفتيه وشك عليه في المطالبة
وكان للبدوي زوجة حسنة وكان إذا أخرج البدوي تتعرض لأخي وتراوده عن نفسه
وهو يمتنع حياء من الله تعالى فاتفق أن راودت أخي يوماً من الأيام فقام
ولاعبها وأجلسها في حجره فبينما هما كذلك وإذا يزوجها داخل عليهما فلما نظر
إلى أخي قال له: ويلك يا خبيث أتريد الآن أن تفسد علي زوجتي وأخرج سكيناً
وقطع بها ذكره وحمله على جمل وطرحه فوق جبل وتركه وسار إلى حال سبيله فجاز
عليه المسافرون فعرفوه فأطعموه وأسقوه وأعلموني بخبره فذهبت إليه وحملته،
ودخلت به المدينة ورتبت له ما يكفيه وها أنا جئت عندك يا أمير المؤمنين
وخفت أن أرجع إلى بيتي قبل إخبارك، فيكون ذلك غلطاً وورائي ستة أخوة وأنا
أقوم بهم. فلما سمع أمير المؤمنين قصتي وما أخبرته به عن أخوتي، ضحك وقال:
صدقت يا صامت أنت قليل الكلام ما عندك فضول ولكن الآن أخرج من هذه المدينة
وأسكن غيرها ثم نفاني من بغداد فلم أزل سائراً في البلاد حتى طفت الأقاليم
إلى أن سمعت بموته وخلافة غيره فرجعت إلى المدينة فوجدته مات ووقعت عند هذا
الشاب وفعلت معه أحسن الفعال ولولاي أنا لقتل وقد اتهمني بشيء ما هو في
جميع ما نقله عني من الفضول وكثرة الكلام وكثافة الطبع وعدم الذوق باطل يا
جماعة. ثم قال الخياط لملك الصين، فلما سمعنا قصة المزين وتحققنا فضوله
وكثرة كلامه وأن الشاب مظلوم معه أخذنا المزين وقبضنا عليه وحبسناه وجلسنا
حوله آمنين ثم أكلنا وشربنا وتمت الوليمة على أحسن حالة ولم نزل جالسين إلى
أن أذن العصر فخرجت وجئت منزلي وعشيت زوجتي فقالت: إن طول النهار، في حظك
وأنا قاعدة في البيت حزينة فإن لم تخرجي وتفرجني بقية النهار كان ذلك سبب
فراقي منك فأخذتها وخرجت بها وتفرجنا إلى العشاء ثم رجعنا فلقينا هذا
الأحدب والسكر طافح منه وهو ينشد هذين البيتين: رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكـل الأمـر فكأنما خـمـر ولا قـدح وكأنما قدح ولا خـمـر فعزمت
عليه فأجابني وخرجت لأشتري سمكاً مقلياً فاشتريت ورجعت ثم جلسنا نأكل،
فأخذت زوجتي لقمة وقطعة سمك وأدخلتهما فمه وسدته فمات فحملته وتحايلت حتى
رميته في بيت هذا الطبيب وتحايل الطبيب، حتى رماه في بيت المباشر الذي رماه
في طريق السمسار وهذه قصة ما لقيته البارحة أما هي أعجب من قصة الحدب فلما
سمع ملك الصين هذه القصة أمر بعض حجابه أن يمضوا مع الخياط ويحضروا المزين
وقال لهم: لا بد من حضوره لأسمع كلامه ويكون ذلك سبباً في خلاصكم جميعاً،
وندفن هذا الأحدب ونواريه في التراب فإنه ميت من أمس ثم نعمل له ضريحاً
لأنه كان سبباً في اطلاعنا على هذه الأخبار العجيبة فما كان إلا ساعة حتى
جاءت الحجاب هم والخياط بعد أن مضوا إلى الحبس وأخرجوا منه المزين وساروا
به إلى أن أوقفوه بين يدي هذا الملك، فلما رآه تأمله فإذا هو شيخ كبير جاوز
التسعين أسود الوجه أبيض اللحية والحواجب مقرطم الأذنين طويل الأنف في
نفسه كبر فضحك الملك من رؤيته وقال: يا صامت أريد أن تحكي لي شيئاً من
حكاياتك فقال المزين: يا ملك الزمان ما شأن هذا النصراني وهذا بطريق
اليهودي وهذا المسلم وهذا الأحدب بينكم ميت وما سبب هذا الجمع فقال له ملك
الصين: وما سؤالك عن هؤلاء؟ فقال: سؤالي عنهم حتى يعلم الملك أني غير فضولي
ولا أشتغل بما لا يعنيني، وإنني بريء مما اتهموني به من كثرة الكلام. وأن
لي نصيباً من اسمي حيث لقبوني بالصامت كما قال الشاعر:
وكلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه أن فتشت في لقبي
فقال الملك: اشرحوا للمزين حال هذا الأحدب وما جرى له في وقت العشاء
واشرحوا له ما حكى النصراني وما حكى اليهودي وما حكى الخياط، فحكوا له
حكايات الجميع فحرك المزين رأسه وقال: والله إن هذا الشيء عجيب اكشفوا لي
عن هذا الأحدب فكشفوا له عنه فجلس عند رأسه وأخذ رأسه في حجره ونظر في وجهه
وضحك ضحكاً عالياً حتى انقلب على قفاه من شدة الضحك وقال: لكل موتة سبب من
الأسباب وموتة هذا الأحدب من عجب العجاب يجب أن تؤرخ في المسجلات ليعتبر
بما مضى ومن هو آت فتعجب الملك من كلامه وقال: يا صامت إحك لنا سبب كلامك
هذا وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الخامسة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال: يا صامت احك لنا سبب
كلامك هذا فقال: يا ملك وحق نعمتك أن الأحدب فيه الروح ثم إن المزين أخرج
من وسطه مكحلة فيها دهن ودهن رقبة الأحدب وغطاها حتى عرقت ثم أخرج كلبتين
من حديد ونزل بهما في حلقة فالتقطتا قطعة السمك بعظمها فلما أخرجها رآها
الناس بعيونهم ثم نهض الأحدب واقفاً على قدميه وعطس عطسة واستفاق في نفسه
وملس بيديه على وجهه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فتعجب الحاضرون
من الذي رأوه وعاينوه، فضحك ملك الصين حتى غشي عليه وكذلك الحاضرون وقال
السلطان: والله إن هذه القصة عجيبة ما رأيت أغرب منها ثم إن السلطان قال:
يا مسلمين يا جماعة العسكر، هل رأيتم في عمركم أحداً يموت ثم يحيا بعد ذلك
ولولا رزقه الله بهذا المزين لكان اليوم من أهل الآخرة فإنه كان سبباً
لحياته، فقالوا: والله إن هذا من العجب العجاب ثم إن ملك الصين أمر أن تسطر
هذه القصة فسطروها ثم جعلوها في خزانة الملك ثم خلع على اليهودي والنصراني
والمباشر وخلع على كل واحد خلعة سنية وجعل الخياطة خياطه ورتب له الرواتب،
وأصلح بينه وبين الأحدب وخلع على الأحدب خلعة سنية مليحة ورتب له الراتب
وجعله نديمه وأنعم على المزين وخلع عليه خلعة سنية ورتب له الرواتب، وجعل
له جامكية وجعله مزين المملكة ونديمه ولم يزالوا في ألذ العيش وأهناه إلى
أن آتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وليس هذا بأعجب من قصة الوزيرين، التي
فيها ذكر أنيس الجليس قال الملك وما حكاية الوزيرين؟'حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بالبصرة ملك من الملوك يحب
الفقراء والصعاليك ويرفق بالرعية ويهب من ماله لمن يؤمن بمحمد صلى الله
عليه وسلم وكان يقال لهذا الملك محمد بن سليمان الزيني وكان له وزيران
أحدهما يقال له المعين ابن سا وي والثاني يقال له الفضل بن خاقان وكان
الفضل ابن خاقان أكرم أهل زمانه حسن السيرة أجمعت القلوب على محبته، واتفقت
العقلاء على مشورته وكل الناس يدعون له بطول مدته لنه محضر خير مزيل الشر
والضير وكان الوزير معين بن ساوي يكره الناس ولا يحب الخير وكان محضر سوء،
وكان الناس على قدر محبتهم لفضل الدين ابن خاقان يبغضون المعين بن ساوي
بقدرة القادر ثم إن الملك محمد بن سليمان الزيني كان قاعداً يوماً من
الأيام على كرسي مملكته وحوله أرباب دولته إذ نادى وزيره الفضل بن خاقان
وقال له: إني أريد جارية لا يكون في زمانها أحسن منها بحيث تكون كاملة في
الجمال، فائقة في الاعتدال حميدة الخصال فقال أرباب الدولة: هذه لا توجد
إلا بعشرة آلاف دينار. فعند ذلك صاح السلطان على الخازندار وقال: احمل عشرة
آلاف دينار، إلى جار الفضل بن خاقان فامتثل الخازندار أمر السلطان ونزل
الوزير بعدما أمره السلطان أن يعمد إلى السوق في كل يوم ويوصي السماسرة على
ما ذكره وأنه لا تباع جارية ثمنها فوق الألف دينار حتى تعرض على الوزير
فلم تبع السماسرة جارية حتى يعرضوها عليه فامتثل الوزير أمره، واستمر على
هذا الحال مدة من الزمان ولم تعجبه جارية فاتفق يوماً من الأيام أن بعض
السماسرة أقبل على دار الوزير الفضل بن خاقان فوجده راكباً متوجهاً إلى قصر
الملك فقبض على ركابه وأنشد هذين البيتين:
يا من أعاد رميم الملك منـشـوراً أنت الوزير الذي لا زال منصوراً أحييت ما مات بين الناس من كرم لا زال سعيك عند الله مشكـورا
ثم قال: يا سيدي إن الجارية التي صدر بطلبها المرسوم الكريم قد حضرت
فقال له الوزيرعلي بها فغاب ساعة ثم حضر ومعه جارية رشيقة القد قاعدة النهد
بطرف كحيل وخد أسيل وخصر نحيل وردف ثقيل وعليها أحسن ما يكون من الثياب
ورضابها أحلى من الجلاب وقامتها تفضح غصون البان وكلامها أرق من النسيم إذا
مر على زهر البستان كما قال فيها بعض واصفيها هذه الأبيات: لها بشر مثل
الحرير ومنـطـق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر وعينان قال الله كونا
فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فيا حبها زدني جوى كـل لـيلة ويا
سلوة الأيام موعدك الحشـر ذوائبها ليل ولكـن جـبـينـهـا إذا أسفرت يوم
يلوح به الفجـر فلما رآها الوزير أعجبته غاية الإعجاب فالتفت إلى السمسار
وقال له: كم ثمن هذه الجارية؟ فقال: وقف سعرها على عشرة آلاف دينار وحلف
صاحبها أن العشرة آلاف دينار لم تجيء ثمن الفراريج التي أكلتها ولا ثمن
الخلع التي خلعتها على معلميها فإنها تعلمت الخط والنحو واللغة والتفسير
وأصول الفقه والدين والطب والتقويم والضر بالآلات المطربة، فقال الوزير علي
بسيدها فأحضره السمسار في الوقت والساعة فإذا هو رجل أعجمي عاش زمناً
طويلاً حتى صيره الدهر عظماً في جلد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.في الليلة السادسة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي صاحب الجارية لما حضر بين يدي
الوزير الفضل بن خاقان قال له الوزير: رضيت أن تأخذ في هذه الجارية عشرة
آلاف دينار من السلطان محمد بن سليمان الزيني؟ فقال العجمي: حيث كانت
للسلطان فالواجب علي ان أقدمها إليه هدية بلا ثمن. فعند ذلك أمر بإحضار
الأموال فلما حضرت وزن الدنانير للعجمي ثم أقبل النخاس على الوزير وقال: عن
إذن مولانا الوزير أتكلم فقال الوزير: هات ما عندك فقال: عندي من الرأي أن
لا تطلع بهذه الجارية إلى السلطان في هذا اليوم، فإنه قادمة من السفر
واختلفت عليها الهواء وأتعبها السفر ولكن خلها عندك في القصر عشرة أيام حتى
تستريح فيزداد جمالها ثم أدخلها الحمام وألبسها أحسن الثياب وأطلع بها إلى
السلطان فيكون لك في ذلك الحظ الأوفر، فتأمل الوزير كلام النخاس فوجده
صواباً فأتى بها إلى قصره وأخلى لها مقصورة ورتب لها كل ما تحتاج إليه من
طعام وشراب وغيره فمكثت مدة على تلك الرفاهية وكان للوزير الفضل بن خاقان
ولد كأنه البدر إذا أشرق بوجه أقمر وخد أحمر وعليه خال كنقطة عنبر وفيه
عذار أخضر كما قال الشاعر في مثله هذه الأبيات:
ورد الخدود ودونه شوك القـنـا فمن المحدث نفسه أن يجتـنـى لا تمدد
الأيدي إليه فـطـالـمـا شنوا الحروب لأن مددنا الأعينـا يا قلبه القاسـي
ورقة خـصـره هلا نقلت إلى هنا مـن هـنـا لو كان رقة خصره في قـلـبـه ما جار
قط على المحب ولا جنى يا عاذلي في حبه كـن عـاذري من لي بجسم قد تملكه
الضنـى ما الذنب إلا للفـؤاد ونـاظـري لولاهما ما كنت في هذا العنـى
وكان الصبي لم يعرف قضية هذه الجارية وكان والده أوصاها وقال لها: يا
بنتي اعلمي أني ما اشتريتك إلا سرية للملك محمد بن سليمان الزيني وإن لي
ولداً ما ترك صبية في الحارة إلا فعل بها، فاحفظي نفسك منه وأحذري أن تريه
وجهك أو تسمعيه كلامك فقالت الجارية: السمع والطاعة ثم تركها وانصرف. واتفق
بالأمر المقدر أن الجارية دخلت يوماً من الأيام الحمام الذي في المنزل وقد
حماها بعض الجواري ولبست الثياب الفاخرة فتزايد حسنها وجمالها ودخلت على
زوجة الوزير فقبلت يدها فقالت لها: نعيماً يا أنيس الجليس كيف حالك في هذا
الحمام؟ فقالت: يا سيدتي ما كنت محتاجة إلا إلى حضورك فيه، فعند ذلك قالت
سيدة البيت للجواري: هيا بنا ندخل الحمام فامتثلن أمرها ومضين وسيدتهن
بينهن وقد وكلت بباب المقصورة التي فيها أنيس الجليس جاريتين صغيرتين وقالت
لهما: لا تمكنا أحد من الدخول على الجارية فقالتا: السمع والطاعة. فبينما
أنيس الجليس قاعدة في المقصورة وإذا بابن الوزير الذي اسمه علي نور الدين
قد دخل وسأل عن أمه وعن العائلة، فقالت له الجاريتان: دخلوا الحمام،و قد
سمعت الجارية أنيس الجليس كلام علي نور الدين بن الوزير وهي من داخل
المقصورة. فقالت في نفسها: ياترى ما شأن هذا الصبي الذي قال لي الوزير عنه
أنه ما خلا بصبية في الحارة الا وأوقعها والله أني أشتهي أن أنظره.ثم أنها
نهضت على قدميها وهي بأثر الحمام وتقدمت جهة باب المقصورة ونظرت إلى علي
نور الدين فإذا هو كالبدر في تمامهفأورثتها النظرة ألف حسرة ولاحت من الصبي
التفاتة إليها فنظرها نظرة اورثته ألف حسرة ووقع كل منهما في شرك هوى
الآخر، فتقدم الصبي إلى الجاريتين وصاح عليهما فهربتا من بين يديه ووقفا من
بعيد ينظرانه وينظران ما يفعل، وإذا به تقدم من باب المقصورة وفتحه ودخل
على الجارية وقال لها: أنت التي اشتراك أبي؟ فقالت له: نعم، فعند ذلك تقدم
الصبي إليها وكان في حال السكر وأخذ رجليها وجعلها في وسطه وهي شبكت يدها
في عنقه واستقبلته بتقبيل وشهيق وغنج ومص لسانها ومصت لسانه فأزال بكارتها
فلما رأت الجاريتان سيدهما الصغير داخلاً على الجارية أنيس الجليس صرختا
وكان قد قضى الصبي حاجته وفر هارباً للنجاة من الخوف عقب الفعل الذي فعله.
فلما سمعت سيدة البيت صراخ الجاريتين مضت من الحمام والعرق يقطر منها
وقالت: ما سبب هذا الصراخ الذي في الدار، فلما قربت من الجاريتين اللتين
أقعدتهما على باب المقصورة قالت لهما: ويلكما ما الخبر، فلما رأياها قالتا:
إن سيدي نور الدين جاء وضربنا فهربنا منه فدخل أنيس الجليس وعانقها ولا
ندري أي شيء عمل بعد ذلك، فلما صحا هرب. فعند ذلك تقدمت سيدة البيت إلى
أنيس الجليس وقالت لها: ما الخبر؟ فقالت لها: يا سيدتي أنا قاعدة وإذا بصبي
جميل الصورة دخل علي وقال لي: أنت التي اشتراك أبي لي؟ فقلت نعم والله يا
سيدتي اعتقدت أن كلامه صحيح فعند ذلك أتى إلي وعانقني، فقالت لها: هل فعل
بك شيء غير ذلك؟ قالت: نعم، وأخذ مني ثلاث قبلات فقالت: ما تركك من غير
افتضاض. ثم بكت ولطمت على وجهها هي والجواري خوفاً على علي نور الدين أن
يذبحه أبوه. فبينما هم كذلك وإذا بالوزير دخل وسأل عن الخبر فقالت له
زوجته: أحلف أن ما أقوله لك تسمعه قال: نعم فأخبرته بما فعله ولده فحزن
ومزق ثيابه ولطم على وجهه ونتف لحيته، فقالت له زوجته: لا تقتل نفسك أنا
أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها، فعند ذلك رفع رأسه إليها وقال لها:
ويلك أنا ما لي حاجة بثمنها ولكن خوفي أن تروح روحي ومالي فقالت له: يا
سيدي ما سبب ذلك؟ فقال لها: أما تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يقال له:
المعين بن ساوي، ومتى سمع هذا الأمر تقدم إلى السلطان وقال له.. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السابعة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال لزوجته: أما تعلمين أن
وراءنا عدواً يقال له المعين بن ساوي ومتى سمع بهذا الأمر تقدم إلى السلطان
وقال له: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار واشترى بها
جارية ما رأى أحد مثلها فلما أعجبته قال لابنه: خذها أنت أحق بها من
السلطان فأخذها وأزال بكارتها وها هي الجارية عنده فيقول الملك تكذب فيقول
للملك عن إذنك أهجم عليه وآتيك بها فيأذن له في ذلك فيهجم على الدار ويأخذ
الجارية ويحضرها بين يدي السلطان ثم يسألها فلا تقدر أن تنكر فيقول له يا
سيدي أنت تعلم أني ناصح لك ولكن ما لي عندكم حظ فيمثل بي السلطان والناس
كلهم يتفرجون علي وتروح روحي. فقالت له زوجته: لا تعلم أحد وسلم أمرك إلى
الله في هذه القضية فعند ذلك سكن قلب الوزير وطاب خاطره. هذا ما كان من أمر
الوزير، وأما ما كان من أمر علي نور الدين فإنه خاف عاقبة الأمر فكان يقضي
نهاره في البساتين ولا يأتي إلا في آخر الليل لأمه فينام عندها ويقوم قبل
الصبح ولا يراه أحد،ولم يزل كذلك شهراً وهو لم ير وجه أبيه، فقالت أمه
لأبيه: يا سيدي هل تعدم الجارية وتعدم الولد، فإن طال هذا الأمر على الولد
هج، قال لها: وكيف العمل؟ قالت: أسهر هذه الليلة فإذا جاء فأمسكه واصطلح
أنت وإياه وأعطه الجارية إنها تحبه وهو يحبها وأعطيك ثمنها. فسهر الوزير
طول الليل فلما أتى ولده أمسكه وأراد نحره فأدركته أمه وقالت له: أي شيء
تريد أن تفعل معه؟ فقال لها: أريد أن أذبحه فقال الولد لأبيه: هل أهون
عليك؟ فتغرغرت عيناه بالدموع وقال له: يا ولدي كيف هان عليك ذهاب مالي
وروحي؟ فقال الصبي: اسمع يا والدي مقال الشاعر: هبني جنيت فلم تزل أهل
النهـي يهبون للجاني شماحـاً شـامـلا ماذا عسى يرجو عدوك وهو فـي درك
الحضيض وأنت أعلى منزلا فعند ذلك قام الوزير من على صدر ولده وأشفق عليه
وقام الصبي وقبل يد والده فقال: يا ولدي لو علمت أنك تنصف أنيس الجليس كنت
وهبتها لك، فقال يا والدي كيف لا أنصفها قال: أوصيك يا ولدي أنك لا تتزوج
عليها ولا تضاررها ولا تبعها، قال له: يا والدي أنا أحلف لك أن لا أتزوج
عليها، ولا أبيعها ثم حلف له أيماناً على ما ذكر ودخل على الجارية فأقام
معها سنة، وأنسى الله تعالى الملك قصة الجارية. وأما المعين بن ساوي فإنه
بلغه الخبر ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان فلما مضت
السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام وخرج وهو عرقان، فأصابه
الهواء فلزم الوساد وطال به السهاد وتسلسل به الضعف فعند ذلك نادى ولده علي
نور الدين فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي أن الرزق مقسوم والأجل محتوم
ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون وأنشد هذه الأبيات: من فاته الموت لـم
يفـتـه غـدا والكل منا على حوض الردى وردا سوى العظم بمن قد كان محتـقـرا
ولم يدع هبة بـين الـورى أحـدا لم يبق من ملك كـلا ولا مـلـك ولا نـبـي
يعـيش دائمـاً أبــدا ثم قال: يا ولدي مالي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر
في العواقب وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس فقال له: يا أبت ومن مثلك وقد
كنت معروفاً بفعل الخير ودعاء الخطباء لك على المنابر فقال: يا ولدي أرجو
من الله تعالى القبول ثم نطق الشهادتين وشهق شهقة فكتب من أهل السعادة فعند
ذلك امتلأ القصر بالصراخ ووصل الخبر إلى السلطان وسمعت أهل المدينة بوفاة
الفضل بن خاقان فبكت عليه الصبيان في مكاتبها ونهض ولده علي نور الدين
وجهزه وحضرت الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهده وكان ممن
حضروا الجنازة الوزير المعين بن ساوي وأنشد بعضهم عند خروج جنازته من الدار
هذه الأبيات:
قد قلت للرجل المولى غسلـه هلا أطعت وكنت من نصائحه جنبه ماءك ثم غسـلـه
بـمـا أذرت عيون المجد عند بكـائه وأزل مجاميع الحنوط ونحهـا عنه وحنطه
بطـيب ثـنـائه ومر الملائكة الكرام بحمـلـه شرفاً ألست تراهموا بـإزائه
لاتوه أعناق الرجال بحمـلـه يكفي الذي حملوه من نعمـائه
ثم مكث علي نور الدين، شديد الحزن على والده مدة مديدة فبينما هو جالس
يوماً من الأيام في بيت والده إذ طرق الباب طارق فنهض علي نور الدين وفتح
الباب وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه فقبل يد علي نور الدين، وقال: يا
سيدي من خلف مثلك ما مات وهذا مصير سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه
وسلم يا سيدي طب نفساً ودع الحزن فعند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة
الجلوس ونقل إليها ما يحتاج إليه واجتمع عليه أصحابه وأخذ جاريته واجتمع
عليه عشرة من أولاد التجار ثم إنه أكل الطعام وشرب الشراب وجدد مقاماً بعد
مقام وصار يعطي ويتكرم، فعند ذلك دخل عليه وكيله وقال له: يا سيدي علي نور
الدين أما سمعت قول بعضهم من ينفق ولم يحسب افتقر، ولقد أحسن من قال هذه
الأبيات: أصون دراهمي وأذب عنـهـا لعلمي أنها سيفـي وتـرسـي أأبذلهـا إلـى
أعـدا الأعـادي وأبذل في الورى سعدي بنحسي فيأكلها ويشـربـهـا هـنـيئاً ولا
يسخو لي أحـد بـفـلـس وأحفظ درهمي عن كل شخص لئيم الطبع لا يصفو لأنـسـي
أحب إلي مـن قـول لـنـذل أنلني درهماً لغـد بـخـمـس فيعرض وجهه ويصـدعـنـي
فتبقى مثل نفس الكلب نفسـي فيا ذل الرجـال بـغـير مـال ولو كانت فضائلهم
كشـمـس ثم قال: يا سيدي النفقة الجزيلة والمواهب العظيمة تفني المال فلما
سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام نظر إليه وقال له: جميع ما قلته لا
أسمع منه كلمة فما أحسن قول الشاعر: أنا ما ملكت المال يوماً ولـم أجـد فلا
بسطت كفي ولا نهضت رجلي فهاتوا بخيلاً نال مجداً بـبـخـلـه وهاتوا أروني
باذلاً مات من بـذل ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما
يكفيني لغدائي أن لا تحملني هم عشائي فانصرف الوكيل من عنده إلى حال سبيله
وأقبل علي نور الدين ما هو فيه من مكارم الأخلاق وكل من يقول له من ندمائه
أن هذا الشيء مليح يقول هو لك هبة أو يقول سيدي أن الدار الفلانية مليحة
يقول هي لك هبة ولم يزل علي نور الدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار
مجلساً وفي آخره مجلساً ومكث على هذا الحال سنة كاملة فبينما هو جالساً
يوماً وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين: أحسنت ظنك بالأيام إذا حسنـت ولم
تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بهـا عند صفو الليالي
يحدث الكـدر فلما فرغت من شعرها إذا بطارق يطرق الباب فقام علي نور الدين
فتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم به فلما فتح الباب رآه وكيله فقال له علي
نور الدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي الذي كنا أخافه عليك منه قد وقع لك
قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهماً ولا أقل
من درهم وهذه دفاتر المصروف الذي صرفته ودفاتر أصل مالك، فلما سمع علي نور
الدين هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله فلما
سمع الرجل الذي تبعها خفية، وخرج ليسأل عليه وماقاله الوكيل رجع إلى
أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون فإن علي نور الدين قد أفلس فلما رجع
إليهم علي نور الدين قد أفلس فلما رجع إليهم علي نور الدين ظهر لهم الغم
في وجهه فعند ذلك نهض واحد من الندماء على قدميه، ونظر إلى علي نور الدين
وقال له: يا سيدي إني أريد أن تأذن لي بالانصراف، فقال علي نور الدين:
لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: إن زوجتي تلد في هذه الليلة ولا يمكنني
أن أتخلف عنها واريد أن أذهب إليها وأنظرها فأذن له ونهض آخر وقال له: يا
سيدي نور الدين أريد اليوم أن أحضر عند أخي فإنه يطاهر ولده وكل واحد
يستأذنه إلى حال سبيله حتى انصرفوا كلهم وبقي علي نور الدين وحده فعند ذلك
دعا جاريته وقال: يا أنيس الجليس أما تنظرين ما حل بي وحكى لها ما قاله
الوكيل فقالت: يا سيدي منذ ليال هممت أن أقول لك على هذا الحال فسمعتك تنشد
هذين البيتين:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بهـا على الناس طرأ قبل ان تتفلت فلا جود يفنيها إذا هي أقبلـت ولا الشح يبقيها إذا هي ولـت
فلما سمعتك تنشدهما ولم أبد لك خطاباً فقال لها: يا أنيس الجليس أنت
تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي وأظنهم لا يتركونني من غير مؤاساة،
فقالت أنيس الجليس: والله ما ينفعونك بنافعة، فقال علي نور الدين: فأنا في
هذه الساعة أقوم واروح إليهم وأطرق أبوابهم لعلي أنال منهم شيئاً فأجعله
في يدي رأس مال وأتجر فيه وأترك اللهو واللعب. ثم إنه نهض من وقته وساعته
وما زال سائراً حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة وكانوا كلهم
ساكنين في ذلك الزقاق، فتقدم إلى أول باب وطرقه فخرجت له جارية وقالت له:
من أنت؟ فقال: قولي لسيدك علي نور الدين واقف في الباب ويقول لك مملوكك
يقبل أياديك وينتظر فضلك، فدخلت الجارية وأعلمت سيدها فصاح عليها وقال لها:
ارجعي وقول له: ما هو هنا، فرجعت الجارية إلى علي نور الدين وقالت له: يا
سيدي إن سيدي ما هو هنا، فتوجه علي نور الدين وقال في نفسه: إن كان هذا ولد
زنا وأنكر نفسه فغيره ما هو ولد زنا، ثم تقدم إلى الباب الثاني وقال كما
قال أولاً فأنكر الآخر نفسه فعند ذلك أنشد هذا البيت: ذهب الذين إذا وقفت
ببابهـم منوا عليك بما تريد من الندى فلما فرغ من شعره قال: والله لا بد أن
أمتحنهم كلهم عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع، فدار على العشرة
فلم يجد أحداً منهم فتح له الباب ولا أراه نفسه ولا أمر له برغيف فأنشد هذه
الأبيات: المرء في زمن الإقبال كالشجـرة فالناس من حولها ما دامت الثمرة
حتى إذا أسقطت كل الذي حملت تفرقوا وأرادوا غيرها شـجـرة تباً لأبناء هذا
الـدهـر كـلـهـم فلم أجد واحداً يصفو من العشرة ثم إنه رجع إلى جاريته وقد
تزايد همه فقالت له: يا سيدي أما قلت لكإنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال:
والله ما فيهم من أراني وجهه فقالت له: يا سيدي بع من أثاث البيت شيئاً
فشيئاً وأنفق فباع إلى أن باع جميع ما في البيت ولم يبق عنده شيء، فعند ذلك
نظر إلى أنيس الجليس وقال لها: ماذا نفعل الآن؟ قالت له: يا سيدي عندي من
الرأي أن تقوم في هذه الساعة وتنزل إلى السوق فتبيعني وأنت تعلم أن والدك
كان قد اشتراني بعشرة آلاف دينار فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا
قدر الله باجتماعنا نجتمع، فقال لها: يا أنيس الجليس ما يهون علي فراقك
ساعة واحدة، فقالت له: ولا أنا كذلك لكن للضرورة أحكام كما قال الشاعر:
تلجئ الضرورات في الأمور إلى سلـوك مـا لا يلـيق بـالأدب ما حامل نفسه
عـلـى سـبـب إلا لأمـر يلـيق بـالـسـبـب فعند ذلك أخذت دموع أنيس الجليس
تسيل على خديه، ثم أنشد هذين البيتين: قفوا زودوني نظرة قبل فراقكم أعلل
قلباً كاد بالبـين يتـلـف فإن كان تزويدي بذلك كـلـفة دعوني في وجدي ولا
تتكلفوا ثم مضى وسلمها إلى الدلال وقال له: أعرف مقدار ما تنادي عليه فقال
له الدلال: يا سيدي علي نور الدين الأصول محفوظة، ثم قال له: أها هي أنيس
الجليس الذي كان اشتراها والدك مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، فعند ذلك
طلع الدلال إلى التجار فوجدهم لم يجتمعوا كلهم فصبر حتى اجتمع سائر التجار
وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية
فلما نظر الدلال إلى ازدحام السوق نهض قائماً وقال: يا تجار يا أرباب
الأموال ما كل مدور جوزة ولا كل مستطيلة موزة ولا كل حمراء لحمة ولا كل
بيضاء شحمة ولا كل صهباء خمرة ولا كل سمراء تمرة، يا تجار هذه الدرة
اليتيمة التي لا تفي الأموال لها بقية بكم تفتحون باب الثمن، فقال واحد
بأربعة آلاف دينار وخمسمائة، وإذا بالوزير المعين بن ساوي في السوق فنظر
علي نور الدين واقفاً في السوق فقال في نفسه: ما باله واقفاً فإنه ما بقي
عنده شيء يشتري به جواري، ثم نظر بعينيه فسمع المنادي وهو واقف ينادي في
السوق والتجار حوله. فقال الوزير في نفسه: ما أظنه إلا أفلس ونزل بالجارية
ليبيعها، ثم قال في نفسه إن صح ذلك فما أبرده على قلبي، ثم دعا المنادي
فأقبل عليه وقبل الأرض بين يديه فقال: إني أريد هذه الجارية التي تنادي
عليها فلم يمكنه المخالفة فجاء بالجارية وقدمها بين يديه، فلما نظر إليها
وتأمل محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة أعجبتها فقال له: إلى كم
وصل ثمنها فقال: أربعة آلاف وخمسمائة دينار، فلما سمع ذلك التجار ما قدر
واحد منهم أن يزيد درهماً ولا ديناراً بل تأخروا لمايعلمون من ظلم ذلك
الوزير. ثم نظر الوزير معين بن ساوي إلى الدلال وقال: ما سبب وقوفك، رح
والجارية على أربعة آلاف ولك خمسمائة دينار، فراح الدلال إلى علي نور الدين
وقال له: راحت الجارية عليك بلا ثمن فقال له: وماسبب ذلك؟ فقال له: نحن
فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف وخمسمائة دينار فجاء هذا الظالم المعين بن
ساوي ودخل السوق فلما نظر الجارية أعجبته وقال لي شاور على أربعة آلاف ولك
خمسمائة وما أظنه إلا يعرف أن الجارية لك فإن كان يعطيك ثمنها في هذه
الساعة يكون ذلك من فضل الله، لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة حوالة
على بعض عملائه ثم يرسل إليهم ويقول: لا تعطوه شيئاً فكلما ذهبت إليهم
لتطالبهم يقولون: في غد نعطيك ولا يزالون يعدونك ويخلفون يوماً بعد يوم
وأنت عزيز النفس، وبعد أن يضجوا من مطالبتك إياهم يقولون أعطنا ورقة
الحوالة إذا أخذوا الورقة منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية. فلما سمع علي
نور الدين من الدلال هذا الكلام نظر إليه وقال له: كيف يكون العمل؟ فقال
له: أنا أشير عليك بمشورة فإن قبلتها مني كان لك الحظ الأوفر قال: تجيء في
هذه الساعة عندي وأنا واقف وسط السوق وتأخذ الجارية من يدي وتلكمها وتقول
لها: ويلك قد فديت يميني التي حلفتها ونزلت بك السوق حيث حلفت عليك أنه لا
بد من إخراجك إلى السوق ومناداة الدلال عليك فإن فعلت ذلك ربما تدخل عليه
الحيلة وعلى الناس ويعتقدون أنك ما نزلت بها إلا لأجل إبراز اليمين، فقال
هذا هو الرأي الصائب، ثم إن الدلال فارقه وجاء إلى وسط السوق وأمسك يد
الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوي وقال: يا مولاي هذا مالكها قد
اقبل ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال ونزع الجارية من يده ولكمها وقال:
ويلك قد نزلت بك إلى السوق لأجل إبرار يميني. روحي إلى البيت وبعد ذلك لا
تخالفيني فلست محتاجاً إلى ثمنك حتى أبيعك وأنا لو بعت أثاث البيت وأمثاله
مرات عديدة ما بلغ قدر ثمنك. فلما نظر المعين بن ساوي إلى علي نور الدين
قال له: ويلك وهل بقي عندك شيء يباع ويشترى، ثم إن المعين بن ساوي أراد أن
يبطش به فعند ذلك نظر التجار إلى علي نور الدين وكانوا كلهم يحبونه فقال
لهم: ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه، فقال الوزير: والله لولا أنتم
لقتلته، ثم رمزوا كلهم إلى بعضهم بعين الإشارة وقالوا: ما أحد منا يدخل
بينك وبينه، فعند ذلك تقدم علي نور الدين إلى الوزير بن ساوي وكان علي نور
الدين شجاعاً فجذب الوزير من فوق سرجه فرماه إلى الأرض وكان هناك معجنة طين
فوقع الوزير في وسطها وجعل نور الدين يلكمه فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت
لحيته بدمه وكان مع الوزير عشرة مماليك فلما رأوا نور الدين يفعل بسيدهم
هذه الأفعال وضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم وأرادوا أن يهجموا على نور
الدين ويقطعونه وإذا بالناس قالوا للمماليك: هذا وزير وهذا ابن وزير وربما
اصطلحا مع بعضهما وتكونون مبغوضين عند كل منهما وربما جاءت فيه ضربة
فتموتون جميعاً اقبح الموتات ومن الرأي أن لا تدخلوا بينهما، فلما فرغ علي
نور الدين من ضرب الوزير أخذ جاريته ومضى إلى داره وأما الوزير ابن ساوي
ف