حكاية السندباد
قالت: بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة
بغداد رجل يقال له السندباد الحمال، وكان رجلاً فقير الحال يحمل تجارته على
رأسه فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديد
الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر، فمر على باب رجل تاجر قدامه
كنس ورش وهناك هواء معتدل، وكان بجانب الباب مصطبة عريضة فحط الحمال حملته
على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحمال لما ترك حملته على تلك المصطبة
ليستريح ويشم الهواء خرج عليه من ذلك الباب نسيم عليل ورائحة زكية فاستلذ
الحمال لذلك وجلس على جانب المصطبة فسمع في ذلك المكان نغم العود وأصوات
مطربة وأنواع إنشاد معربة وسمع أيضاً أصوات طيور تناغي فتسبح الله تعالى
باختلاف الأصوات وسائر اللغات من قماري وهزار وشحارير وبلابل وفاخت وكروان.
فعند ذلك تعجب من نفسه وطرب طرباً شديداً فتقدم إلى ذلك فوجد داخل البيت
بستاناً عظيماً. ونظر فيه غلمانا وعبيدا وخدامة وشيئاً لا يوجد إلا عند
الملوك والسلاطين وبعد ذلك هبت عليه رائحة أطعمة طيبة زكية من جميع الألوان
المختلفة والشراب الطيب فرفع طرفه إلى السماء وقال: سبحانك يا رب يا خالق
يا رزاق ترزق من تشاء بغير حساب اللهم إني أستغفرك من جميع الذنوب وأتوب
إليك من العيوب يا رب لا أعترض عليك في حكمك وقدرتك فإنك لا تسأل عما تفعل
وأنت على كل شيء قدير سبحانك تغني من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء لا
إله إلا أنت ما أعظم شأنك وما أقوى سلطانك وما أحسن تدبيرك قد أنعمت على من
تشاء من عبادك فهذا المكان صاحبه في غاية النعمة وهو متلذذ بالروائح
اللطيفة والمآكل اللذيذه والمشارب الفاخرة في سائر الصفات وقد حكمت في خلقك
بما تريد وما قدرته عليهم فمنهم تعبان ومنهم مستريح ومنهم سعيد ومنهم من
هو مثلي في غاية التعب والذل وأنشد يقول: فكم من شقي بلا راحةينعم في خير
فيء وظل وأصبحت في تعب زائدوأمري عجيب وقد زاد حملي وغيري سعيد بلا شقوةوما
حمل الدهر يوماً كحملي وكل الخلائق من نطفةأنا مثل هذا وهذا كمثلي ولكن
شتان ما بينناوشتان بين خمر وخل ولست أقول عليك افتراءفأنت حكيم حكمت بعدل
فلما فرغ السندباد الحمال من شعره ونظمه أراد أن يحمل حملته ويسير إذ قد
طلع عليه من ذلك الباب غلام صغير السن جميل الوجه مليح القد فاخر الملابس
فقبض يد الحمال وقال له: ادخل لتكلم سيدي فإنه يدعوك فلم يرد الحمال الدخول
مع الغلام فلم يقدر على ذلك فترك حملته عند الباب في وسط المكان ودخل مع
الغلام داخل الدار فوجد داراً واسعة وعليها أنس ووقار ونظر إلى مجلس عظيم
فنظر فيه من السادات الكرام فرأى من جميع أصناف الزهر وجميع أصناف المشموم
ومن أنواع النقل والفواكه و كثير من أصناف الأطعمة النفيسة وفيه مشروب من
خواص دوالي الكروم وفيه آلات الطرب من أصناف الجواري الحسان كل منهن في
مرتبته على حسب الترتيب. وفي صدر ذلك المجلس رجل عظيم محترم قد بدأه الشيب
في عوارضه وهو مليح الصورة حسن المنظر وعليه هيبة ووقار وعز وافتخار فعند
ذلك بهت السندباد الحمال وقال في نفسه: والله إن هذا المكان من بقع الجنان
أو أنه يكون قصر ملك أو سلطان ثم تأدب وسلم عليهم ..... .. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت : بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد الحمال لما قبل الأرض بين
أيديهم وقف منكس الرأس متخشع فأذن له صاحب المكان بالجلوس فجلس وقد قربه
إليه وصار يؤانسه بالكلام ويرحب به ثم إنه قدم له شيئاً من أنواع الطعام
المفتخر الطيب النفيس فتقدم السندباد الحمال وسمى وأكل حتى اكتفى وشبع
وقال: الحمد لله على كل حال ثم إنه غسل يديه وشكرهم على ذلك. فقال صاحب
المكان: مرحبا بك ونهارك مبارك فما يكون اسمك وما تعاني من الصنائع فقال
له: يا سيدي اسمي السندباد الحمال وأنا أحمل على رأسي أسباب الناس بالأجرة
فتبسم صاحب المكان وقال له: اعلم يا حمال أن اسمك مثل اسمي فأنا السندباد
البحري ولكن يا حمال قصدي أن تسمعني الأبيات التي كنت تنشدها وأنت على
الباب فاستحى الحمال وقال له: بالله عليك لا تؤاخذني فإن التعب والمشقة
وقلة ما في اليد تعلم الإنسان قلة الأدب والسفه. فقال له: لا تستحي فأنت
صرت أخي فانشد هذه الأبيات فإنها أعجبتني لما سمعتها منك وأنت تنشدها على
الباب فعند ذلك أنشده الحمال تلك الأبيات فأعجبته وطرب لسماعها وقال له:
اعلم أن لي قصة عجيبة وسوف أخبرك بجميع ما صار لي وما جرى لي من قبل أن
أصير في هذه السعادة واجلس في هذا المكان الذي تراني فيه فإني ما وصلت إلى
هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد ومشقة عظيمة وأهوال كثيرة وكم
قاسيت في الزمن الأول من التعب والنصب وقد سافرت سبع سفرات وكل سفرة لها
حكاية تحير الفكر وكل ذلك بالقضاء والقدر وليس من المكتوب مفر ولا مهروب.
الحكاية الأولى من حكايات السندباد البحري وهي أول السفرات اعلموا يا سادة
يا كرام أنه كان لي أب تاجر وكان من أكابر الناس والتجار وكان عنده مال
كثير ونوال جزيل وقد مات وأنا ولد صغير وخلف لي مالاً وعقاراً وضياعاً فلما
كبرت وضعت يدي على الجميع وقد أكلت أكلاً مليحاً وشربت شرباً مليحاً
وعاشرت الشباب وتجملت بلبس الثياب ومشيت مع الخلان والأصحاب واعتقدت أن ذلك
يدوم لي وينفعني ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان ثم إني رجعت إلى
عقلي وأفقت من غفلتي فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال وقد ذهب جميع ما كان
عندي ولم أستفق لنفسي إلا وأنا مرعوب مدهوش وقد تفكرت حكاية كنت أسمعها
سابقاً وهي حكاية سيدنا سليمان بن داود عليه السلام في قوله: ثلاثة خير من
ثلاثة يوم الممات خير من يوم الولادة وكلب حي خير من سبع ميت والقبر خير من
القصر. ثم إني قمت وجمع ما كان عندي من أثاث وملبوس وبعته ثم بعت عقاري
وجميع ما تملك يدي فجمعت ثلاثة آلاف درهم وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد
الناس وتذكرت كلام بعض الشعراء حيث قال:
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي يغوص
البحر من طلب اللآلئ ويحظى بالسعادة والنوال
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
فعند ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعاً وأسباباً وشيئاً من أغراض
السفر وقد سمحت لي نفسي بالسفر في البحر فنزلت المركب وانحدرت إلى مدينة
البصرة مع جماعة من التجار وسرنا في البحر أياماً وليالي وقد مررنا بجزيرة
بعد جزيرة ومن بحر إلى بحر ومن بر إلى بر وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري
ونقايض بالبضائع فيه وقد انطلقنا في سير البحر إلى أن وصلنا إلى جزيرة
كأنها روضة من رياض الجنة فأرسى بنا صاحب المركب على تلك الجزيرة ورمى
مراسيها وشد السقالة فنزل جميع من كان في المركب في تلك الجزيرة وعملوا لهم
كوانين وأوقدوا فيها النار واختلفت أشغالهم فمنهم من صار يطبخ ومنهم من
صار يغسل ومنهم من صار يتفرج وكنت أنا من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة.
وقد اجتمع الركاب على أكل وشرب ولهو ولعب فبينما نحن على تلك الحالة وإذا
بصاحب المركب واقف على جانبه وصاح بأعلى صوته: يا ركاب السلامة أسرعوا
واطلعوا إلى المركب وبادروا إلى الطلوع واتركوا أسبابكم واهربوا بأرواحكم
وفوزوا بسلامة أنفسكم من الهلاك فإن هذه الجزيرة التي أنتم عليها ما هي
جزيرة وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل
الجزيرة وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان فلما وقدتم عليها النار
أحست بالسخونة فتحركت وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون جميعاً
فاطلبوا النجاة لأنفسكم قبل الهلاك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت شهرزاد : بلغني أيها الملك السعيد أن ريس المركب لما صاح على
الركاب وقال لهم: اطلبوا النجاة لأنفسكم واتركوا الأسباب ولما سمع الركاب
كلام ذلك الريس أسرعوا وبادروا بالطلوع إلى المركب وتركوا الأسباب وحوائجهم
ودسوتهم وكوانينهم فمنهم من لحق المركب ومنهم من لم يلحقه وقد تحركت تلك
الجزيرة ونزلت إلى قرار البحر بجميع ما كان عليها وانطبق عليها البحر
العجاج المتلاطم بالأمواج وكنت من جملة من تخلف في الجزيرة فغرقت في البحر
مع جملة من غرق ولكن الله تعالى أنقذني ونجاني من الغرق ورزقني بقطعة خشب
كبيرة من القطع التي كانوا يغسلون فيها فمسكتها بيدي وركبتها من حلاوة
الروح ورفست في الماء برجلي مثل المجاذيف والأمواج تلعب بي يميناً وشمالاً.
وقد نشر الريس قلاع المركب وسافربالذين طلع بهم في المركب ولم يلتفت لمن
غرق منهم ومازلت أنظر إلى ذلكالمركب حتى خفي عن عيني وأيقنت بالهلاك ودخل
علي الليل وأنا على هذه الحالة فمكثت على ما أنا فيه يوماً وليلة وقد
ساعدني الريح والأمواج إلى أن رست بي تحت جزيرة عالية وفيها أشجار مطلة على
البحر فمسكت فرعاً من شجرة عالية وتعلقت به بعدما أشرفت على الهلاك وتمسكت
به إلى أن طلعت إلى الجزيرة فوجدت في قدمي خدلاً وأثر أكل السمك في
بطونهما ولم أشعر بذلك من شدة ما كنت فيهمن الكرب والتعب , وقد ارتميت في
الجزيرة وأنا مثل الميت وغبت عن وجودي وغرقت في دهشتي ولم أزل على هذه
الحالة إلى ثاني يوم . وقد طلعت الشمس علي وانتبهت في الجزيرة فوجدت رجلي
قد ورمتا , فسرت حزيناً على ما أنا فيه فتارة أزحف وتارة أحبو على ركبي
وكان في الجزيرة فواكه كثيرة وعيون ماء عذب , فصرت آكل من تلك الفواكه ولم
أزل على هذه الحالة مدة أيام وليال فانتعشت نفسي وردت لي روحي وقويت حركتي
وصرت أتفكر وأمشي في جانب الجزيرة وأتفرج بين الأشجار مما خلق الله تعالى
وقد عملت لي عكازاً من تلك الأشجار أتوكأ عليه , ولم أزل على هذه الحالة
إلى أن تمشيت يوماً من الأيام في جانب الجزيرة فلاح لي شبح من بعيد فظننت
أنه وحش أو أنه دابة من دواب البحر فتمشيت إلى نحوه ولم أزل أتفرج عليه
وإذا هو فرس عظيم المنظر مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر , فدنوت منه
فصرخ علي صرخة عظيمة فارتعبت منه وأردت أن أرجع , وإذا برجل خرج من تحت
الأرض وصاح علي واتبعني وقال لي : من أنت ومن أين جئت وما سبب وصولك إلى
هذا المكان ? فقلت له : يا سيدي اعلم أني رجل غريب وكنت في مركب وغرقت أنا
وبعض من كان فيها فرزقني الله بقطعة خشب فركبتها وعامت بي إلى أن رمتني
الأمواج في هذه الجزيرة . فلما سمع كلامي أمسكني من يدي وقال لي : امش معي
فنزل بي في سرداب تحت الأرض ودخل بي إلى قاعة كبيرة تحت الأرض وأجلسني في
صدر تلك القاعة وجاء لي بشيء من الطعام وأنا كنت جائعاً فأكلت حتى شبعت
واكتفيت وارتاحت نفسي , ثم إنه سألني عن حالي وما جرى لي , فأخبرته بجميع
ما كان من أمري من المبتدأ إلى المنتهى , فتعجب من قصتي . فلما فرغت من
حكايتي قلت : بالله عليك ياسيدي لا تؤاخذني فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي وما
جرى لي وأنا أشتهي منك أن تخبرني من أنت وما سبب جلوسك في هذه القاعة التي
تحت ? فقال لي : اعلم أننا جماعة متفرقون في هذه الجزيرة على جوانبها ونحن
سياس الملك المهرجان وتحت أيدينا جميع خيوله وفي كل شهر عند القمر نأتي
بالخيل الجياد ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر ونختفي في هذه القاعة تحت
الأرض حتى لا يرانا أحد فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل
ويطلع على البر فلم ير أحداً فيثب عليها ويقضي منها حاجته وينزل عنها ويريد
أخذها معه فلا تقدر أن تسير معه من الرباط فيصيح عليه ويضربها برأسه
ورجليه ويصيح فنسمع صوته فنعلم أنه نزل عنها فنطلع صارخين عليه فيخاف وينزل
البحر والفرس تحمل وتلد مهراً أو مهرة تساوي خزنة مال ولا يوجد لها نظير
على وجه الأرض وهذا وقت طلوع الحصان وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك
المهرجان . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السايس قال للسندباد البحري آخذك معي
إلى الملك المهرجان وأفرجك على بلادنا واعلم أنه لولا اجتماعك علينا ما كنت
ترى أحداً في هذا المكان غيرنا وكنت تموت كمداً ولا يدري بك أحد ولكن أنا
أكون سبب حياتك ورجوعك إلى بلادك فدعوت له وشكرته على فضله وإحسانه فبينما
نحن في هذا الكلام وإذا بالحصان قد طلع من البحر وصرخ صرخة عظيمة ثم وثب
على الفرس فلما فرغ منها نزل عنها وأراد أخذها معه فلم يقدر ورفست وصاحت
عليه فأخذ الرجل السايس سيفاً بيده ودرقة وطلع من باب تلك القاعة وهو يصيح
على رفقته ويقول اطلعوا إلى الحصان ويضرب بالسيف على الدرقة فجاء جماعة
بالرماح صارخين فجفل منهم الحصان وراح إلى حال سبيله ونزل في البحر مثل
الجاموس وغاب تحت الماء. فعند ذلك جلس الرجل قليلاً وإذا هو بأصحابه قد
جاؤه ومع كل واحد فرس يقودها فنظروني عنده فسألوني عن أمري فأخبرتهم بما
حكيته لو وقربوا مني ومدوا السماط وأكلوا وعزموني فأكلت معهم ثم إنهم قاموا
وركبوا الخيول وأخذوني إلى مدينة الملك المهرجان وقد دخلوا عليه وأعلموه
بقصتي فطلبني فأدخلوني عليه وأوقفوني بين يديه فسلمت عليه فرد علي السلام
ورحب بي وحياني بإكرام وسألني عن حالي فأخبرته بجيع ما حصل لي وبكل ما
رأيته من المبتدأ إلى المنتهى. فعند ذلك تعجب مما وقع لي ومما جرى لي فعند
ذلك قال لي يا ولدي والله لقد حصل لك مزيد السلامة ولولا طول عمرك ما نجوت
من هذه الشدائد ولكن الحمد لله على السلامة ثم إنه أحسن إلي وأكرمني وقربني
إليه وصار يؤانسني بالكلام والملاطفة وجعلني عنده عاملاً في ميناء البحر
وكاتباً على كل مركب عبر إلى البر وصرت واقفاً عنده لأقضي له مصالحه وهو
يحسن إلي وينفعني من كل جانب وقد كساني كسوة مليحة فاخرة وصرت مقدماً عنده
في الشفاعات وقضاء مصالح الناس ولم أزل عنده مدة طويلة. وأنا كلما اشق على
جانب البحر اسأل التجار والمسافرين والبحريين عن ناحية مدينة بغداد لعل
أحداً يخبرني عنها فأروح معه إليها وأعود إلى بلادي فلم يعرفها أحد ولم
يعرف من يروح إليها وقد تحيرت في ذلك وسئمت من طول الغربة ولم أزل على هذه
الحالة مدة من الزمان إلى أن جئت يوماً من الأيام ودخلت على الملك المهرجان
فوجدت عنده جماعة من الهنود فسلمت عليهم فردوا علي السلام ورحبوا بي وقد
سألوني عن بلادي فذكرتها لهم وسألتهم عن بلادهم ذركوا لي أنهم أجناس مختلفة
فمنهم الشاركية وهم أشرف أجناسهم لا يظلمون أحداً ولا يقهرونه. ومنهم
جماعة تسمى البراهمة وهم قوم لا يشربون الخمر أبداً وإنما هم أصحاب حظ
وصفاء ولهو وطرب وجمال وخيول ومواشي وأعلموني أن صنف الهنود يفترق على
اثنين وسبعين فرقة فتعجبت من ذلك غاية العجب. ورأيت في مملكة المهرجان
جزيرة من جملة الجزائر يقال لها كابل يسمع فيها ضرب الدفوف والطبول طول
الليل وقد أخبرنا أصحاب الجزائر والمسافرين أنهم أصحاب الجد والرأي. ورأيت
في البحر سمكة طولها مائتا ذراع ورأيت أيضاً سمكاً وجهه مثل وجه البوم
ورأيت في تلك السفرة كثيراً من العجائب والغرائب مما لو حكيته لكم لطال
شرحه ولم أزل أتفرج على تلك
الجزائر وما فيها إلى أن وقفت يوماً من الأيام على جانب البحر وفي يدي
عكاز حسب عاداتي وإذا بمركب قد أقبل وفيه تجار كثيرون. فلما وصل إلى ميناء
المدينة وفرضته وطوى الريس قلوعه وأرسله على البر ومد السقالة واطلع
البحرية جميع ما كان في ذلك المركب إلى البر وأبطأوا في تطليعه وأنا واقف
أكتب عليهم فقلت لصاحب المركب هل بقي في مركبك شيء فقال نعم يا سيدي معي
بضائع في بطن المركب ولكن صاحبها غرق معنا في البحر في بعض الجزائر ونحن
قادمون في البحر وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس قال للسندباد البحري أن صاحب
هذه البضائع غرق وصارت بضائعه معنا فغرضنا أننا نبيعها ونأخذ ثمنها لأجل أن
نوصله إلى أهله في مدينة بغداد دار السلام فقلت للريس ما يكون اسم ذلك
الرجل صاحب البضائع فقال اسمه السندباد البحري وقد غرق معنا في البحر. فلما
سمعت كلامه حققت النظر فيه فعرفته وصرخت عليه صرخة عظيمة وقلت يا ريس اعلم
أني أنا صاحب البضائع التي ذكرتها وأنا السندباد البحري الذي نزلت من
المركب في الجزيرة مع جملة من نزل من التجار ولما تحركت السمكة التي كنا
عليها وصحت أتت علينا طلع من طلع وغرق الباقي وكنت أنا من جملة من غرق ولكن
الله تعالى سلمني ونجاني من الغرق بقطعة كبيرة من القطع التي كان الركاب
يغسلون فيها. فركبتها وصرت أرفس برجلي وساعدني الريح والموج إلى أن وصلت
إلى هذه الجزيرة فطلعت فيها وأعانني الله تعالى بسياس الملك المهرجان
فأخبرته بقصتي فأنعم علي وجعلني كاتباً على ميناء هذه المدينة فصرت أنتفع
بخدمته وصار لي عنده قبول وهذه البضائع التي معك بضائعي ورزقي قال الريس لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما بقي لأحد أمانة ولا ذمة فقلت له يا
ريس ما سبب ذلك وأنك سمعتني أخبرتك بقصتي فقال الريس لأنك سمعتني أقول أن
معي بضائع صاحبها غرق فتريد أن تأخذها بلا حق وهذا حرام عليك فإننا رأيناه
لما غرق وكان معه جماعة من الركاب كثيرون وما نجا فقلت له يا ريس اسمع قصتي
وافهم كلامي يظهر لك صدقي فإن الكذب سيمة المنافقين ثم إني حكيت للريس
جميع ما كان مني من حين خرجت معه من مدينة بغداد إلى أن وصلنا تلك
الجزيرة التي غرقنا فيها وأخبرته ببعض أحوال جرت بيني وبينه فعند ذلك
تحقق الريس والتجار من صدقي فعرفوني وهنوني بالسلامة وقالوا جميعاً والله
ما كنا نصدق بأنك نجوت من الغرق ولكن رزقك الله عمراً جديداً ثم إنهم
أعطوني البضائع فوجدت اسمي مكتوباً عليها ولم ينقص منها شيء ففتحتها وأخرجت
منها شيئاً نفيساً غالي الثمن وحملته معي بحرية المركب وطلعت به إلى الملك
على سبيل الهدية وأعلمت الملك بأن هذا المركب الذي كنت فيه وأخبرته أن
بضائعي وصلت إلي بالتمام والكمال وأن هذه الهدية منها. فتعجب الملك من ذلك
الأمر غاية العجب وظهر له صدقي في جميع ما قلته وقد أحبني محبة شديدة
وأكرمني إكراماً زائداً ووهب لي شيئاً كثيراً في نظير هديتي ثم بعت حمولتي
وما كان معي من البضائع وكسبت فيها شيئاً كثيراً واشتريت بضاعة وأسباباً
ومتاعاً من تلك المدينة. ولما أراد تجار المركب السفر شحنت جميع ما كان معي
في المركب ودخلت عند الملك وشكرته على فضله وإحسانه ثم استأذنته في السفر
إلى بلادي وأهلي فودعني وأعطاني شيئاً كثيراً عند سفري من متاع تلك المدينة
فودعته ونزلت المركب وسافرنا بإذن الله تعالى وخدمنا السعد وساعدتنا
المقادير ولم نزل مسافرين ليلاً ونهاراً إلى أن وصلنا بالسلامة إلى مدينة
البصرة وطلعنا إليها وأقمنا فيها زمناً قليلاً وقد فرحت بسلامتي وعودتي إلى
بلادي. وبعد ذلك توجهت إلى مدينة بغداد دار السلام ومعي الحمول والمتاع
والأسباب شيء كثير له قيمة عظيمة ثم جئت إلى حارتي ودخلت بيتي وقد جاء جميع
أهلي وأصحابي ثم إني اشتريت لي خدماً وحشماً ومماليك وسراري وعبيداً حتى
صار عندي شيء كثير واشتريت لي دوراً وأماكن وعقاراً أكثر من الأول ثم إني
عاشرت الأصحاب ورافقت الخلان وصرت أكثر مما كنت عليه في الزمن الأول ونسيت
جميع ما كنت قاسيت من التعب والغربة والمشقة وأهوال السفر واشتغلت باللذات
والمسرات والمآكل الطيبة والمشارب النفيسة ولم أزل على هذه الحالة. وهذا ما
كان في أول سفراتي وفي غد إن شاء الله تعالى أحكي لكم الثانية من السبع
سفرات. ثم إن السندباد البحري عشى السندباد البري عنده وأمر له بمائة مثقال
ذهباً وقال له آنستنا في هذا النهار فشكره الحمال وأخذ معه ما وهبه له
وانصرف إلى حال سبيله وهو متفكر فيما يقع وما يجري للناس ويتعجب غاية العجب
ونام تلك الليلة في منزله. ولما أصبح الصباح جاء إلى بيت السندباد البحري
ودخل عنده فرحب به وأكرمه وأجلسه
عنده ولما حضر بقية أصحابه قدم لهم الطعام والشراب وقد صفا لهم الوقت
وحصل لهم الطرب فبدأ السندباد البحري بالكلام وقال اعلموا يا إخواني أنني
كنت في ألذ عيش وأصفى سرور على ما تقدم ذكره لكم بالأمس. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما اجتمع عنده
أصحابه قال لهم إني كنت في ألذ عيش إلى أن خطر ببالي يوماً من الأيام السفر
إلى بلاد الناس واشتاقت نفسي إلى التجارة والتفرج في البلدان والجزر
واكتساب المعاش فهممت في ذلك الأمر وأخرجت من مالي شيئاً كثيراً اشتريت به
بضائع وأسباباً تصلح للسفر وحزمتها وجئت إلى الاسحل فوجدت مركباً مليحاً
جديداً وله قلع قماش مليح وهو كثير الرجال زائد العدة وأنزلت حمولتي فيه
أنا وجماعة من التجار وقد سافرنا في ذلك النهار وطاب لنا السفر ولم نزل من
بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة وكل محل رسونا عليه نقابل التجار وأرباب
الدولة والبائعين والمشترين ونبيع ونشتري ونقايض بالبضائع فيه. ولم نزل على
هذه الحالة إلى أن ألقتنا المقادير على جزيرة كثيرة الأشجار يانعة الأثمار
فائحة الأزهار مترنمة الأطيار صافية الأنهار ولكن ليس بها ديار ولا نافخ
نار فأرسى بنا الريس على تلك الجزيرة وقد طلع التجار والركاب إلى تلك
الجزيرة يتفرجون على ما بها من الأشجار والأطيار ويسبحون الله الواحد
القهار ويتعجبون من قدرة الملك الجبار فعند ذلك طلعت إلى الجزيرة مع جملة
من طلع وجلست على عين ماء صاف بين الأشجار وكان معي شيء من المأكل فجلست في
هذا المكان آكل ما قسم الله تعالى لي وقد طاب النسيم بذلك المكان وصفا لي
الوقت فأخذتني سنة من النوم فارتحت في ذلك المكان وقد استغرقت في النوم
وتلذذت بذلك النسيم الطيب والروائح الزكية ثم إني قمت فلم أجد أحداً لا من
التجار ولا من البحرية فتركوني في الجزيرة وقد التفت فيها يميناً وشمالاً
فلم أجد بها أحد غيري فحصل عندي قهر شديد ما عليه من مزيد وكادت مرارتي
تنفقع من شدة ما أنا فيه من الغم والحزن والتعب ولم يكن معي شيء من حطام
الدنيا ولا من المأكل ولا من المشرب وصرت وحيداً وقد تعبت في نفسي ويئست من
الحياة وبعد ذلك قمت على حيلي وتمشيت في الجزيرة يميناً وشمالاً وصرت لا
أستطيع الجلوس في محل واحد ثم إني صعدت على شجرة عالية وصرت أنظر من
فوقها يميناً وشمالاً فلم أر غير سماء وماء وأشجار وأطيار وجزر ورمال ثم
حققت النظر فلاح لي في الجزيرة شيء أبيض عظيم الخلقة فنزلت من فوق الشجرة
وقصدته وصرت أمشي إلى ناحيته ولم أزل سائراً إلى أن وصلت غليه وإذا به قبة
كبيرة بيضاء شاهقة فيالعلو كبيرة الدائرة فدنوت منها ودرت حولها فلم أجد
لها باباً ولم أجد لي قوة ولا حركة في الصعود عليها من شدة النعومة فعلمت
مكان وقوفي ودرت حول القبة أقيس دائرتها فإذا هي خمسون خطوة وافية فصرت
متفكراً في الحيلة الموصلة إلى دخولها وقد قرب زوال النهار وغروب الشمس
وإذا بالشمس قد خفيت والجو قد أظلم واحتجبت الشمس عني ظننت أنه جاء على
الشمس غمامة وكان ذلك في زمن الصيف فتعجبت ورفعت رأسي وتأملت في ذلك فرأيت
طيراً عظيم الخلقة كبير الجثة عريض الأجنحة طائراً في الجو وهو الذي غطى
عين الشمس وحجبها عن الجزيرة فازددت من ذلك عجباً ثم إني تذكرت حكاية.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما زاد تعجبه من
الطائر الذي رآه في الجزيرة تذكر حكاية أخبره بها قديماً أهل السياحة
والمسافرون وهي أن في بعض الجزائر طيراً عظيماً يقال له الرخ يزق أولاده
بالأفيال فتحققت أن القبة التي رأيتها إنما هي بيضة من بيض الرخ ثم إني
تعجبت من خلق الله تعالى فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذلك الطير نزل
على تلك القبة وحضنها بجناحيه وقد مد رجليه من خلفه على الأرض ونام عليها
فسبحان من لا ينام فعند ذلك فككت عمامتي من فوق رأسي وثنيتها وفتلتها حتى
صارت مثل الحبل وتحزمت بها وشددت وسطي وربطت نفسي في رجلي ذلك الطير
وشددتها شداً وثيقاً وقلت في نفسي لعل هذا يوصلني إلى بلاد المدن والعمار
ويكون ذلك أحسن من جلوسي في هذه الجزيرة وبت تلك الليلة ساهراً خوفاً من أن
أنام فيطير بي على حين غفلة. فلما طلع الفجر وبان الصباح قام الطائر من
على بيضته وصاح صيحة عظيمة وارتفع بي إلى الجو حتى ظننت أنه وصل إلى عنان
السماء وبعد ذلك تنازل بي حتى نزل إلى الأرض وحط على مكان مرتفع عال فلما
وصلت إلى الأرض أسرعت وفككت الرباط من رجليه وأنا أنتفض مشيت في ذلك المكان
ثم إنه أخذ شيئاً من على وجه الأرض في مخالبه وطار إلى عنان
السماء فتأملته فإذا هو حية عظيمة الخلقة كبيرة الجسم قد أخذها وذهب بها
إلى البحر فتعجبت من ذلك ثم إني تمشيت في ذلك المكان فوجدت نفسي في مكان
عال وتحته واد كبير واسع عميق وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد
أن يرى أعلاه من فرط علوه وليس لأحد قدرة على الطلوع فوقه فلمت نفسي على ما
فعلته وقلت يا ليتني مكثت في الجزيرة فإنها أحسن من هذا المكان القفر لأن
الجزيرة كان يوجد فيها شيء آكله من أصناف الفواكه وأشرب من أنهارها وهذا
المكان ليس فيه أشجار ولا أثمار ولا أنهار فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم أنا كل ما أخلص من مصيبة أقع فيما هو أعظم منها وأشد. ثم إني قمت
وقويت نفسي ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس الذي يثقبون به
المعادن والجواهر ويثقبون به الصيني والجزع منه شيئاً ولا أن يكسره إلا
بحجر الرصاص وكل تلك الوادي حيات وأفاع وكل واحدة مثل النخلة ومن أعظم
خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته وتلك الحيات يظهرن في الليل ويختفين في
النهار خوفاً من طير الرخ والنسر أن يختطفها ويقطعها ولا أدري ما سبب ذلك.
فأقمت بتلك الوادي وأنا متندم على ما فعلته وقلت في نفسي والله إني قد عجلت
بالهلاك على نفسي وقد ولى النهار علي فصرت أمشي في تلك الوادي والتفت على
محل أبيت فيه وأنا خائف من تلك الحيات ونسيت أكلي وشربي ومعاشي واشتغلت
بنفسي فلاح لي مغارة بالقرب مني فمشيت فوجدت بابها ضيقاً فدخلتها ونظرت إلى
حجر كبير عند بابها فدفعته وسددت به باب تلك المغارة وأنا داخلها وقلت في
نفسي قد أمنت لما دخلت في هذا المكان وإن طلع النهار اطلع وأنظر ما تفعل
القدرة. ثم التفت في داخل المغارة فرأيت حية عظيمة نائمة في صدر المغارة
على بيضها فاقشعر بدني وأقمت رأسي وسلمت أمري للقضاء والقدر وبت ساهراً
طوال الليل إلى أن طلع الفجر ولاح فأزحت الحجر الذي سددت به باب المغارة
وخرجت منه وأنا مثل السكران دائخ من شدة السهر والجوع والخوف وتمشيت في
الوادي. وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة قد سقطت من قدامي ولم أجد
أحداً فتعجبت من ذلك أشد العجب وتفكرت حكاية أسمعها من قديم الزمان من بعض
التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الألماس الأهوال العظيمة
ولا يقدر أحد أن يسلك إليه ولكن التجار
الذين يجلبونه يعملون حيلة في الوصول إليه ويأخذون الشاة من الغنم
ويذبحونها ويسلخونها ويرشون لحمها ويرمونه من أعلى ذلك الجبل إلى أرض
الوادي فتنزل وهي طرية فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة ثم تتركها التجار إلى
نصف النهار فتنزل الطيور من النسور والريخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في
مخالبها وتصعد إلى أعلى الجبل فيأتيها التجار وتصيح عليها وتصير من عند ذلك
اللحم وتخلص منه الحجارة اللاصقة به ويتركون اللحم للطيور والوحوش ويحملون
الحجارة إلى بلادهم ولا أحد يقدر أن يتوصل إلى مجيء حجر الألماس إلا بهذه
الحيلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري صار يحكي لأصحابه
جميع ما حصل له في جبل الماس ويخبرهم أن التجار لا يقدرون على مجيء شيء منه
إلا بحيلة مثل الذي ذكره ثم قال فلما نظرت إلى تلك الذبيحة تذكرت هذه
الحكاية قمت وجئت عند الذبيحة فنقيت من هذه الحجارة شيئاً كثيراً وأدخلته
في جيبي وبين ثيابي وصرت أنقي وأدخل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي
فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة فربطت نفسي عليها ونمت على
ظهري وجعلتها على صدري وأنا قابض عليها فصارت عالية على الأرض وإذا بنسر
نزل على تلك الذبيحة وقبض عليها بمخالبه وأقلع بها إلى الجو وأنا معلق بها
ولم يزل طائراً بها إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل وحطها وأراد أن ينهش
منها وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذلك النسر وشيء يخبط بالخشب على ذلك
الجبل فجفل النسر وطار إلى الجو ففككت نفسي من الذبيحة وقد تلوثت ثيابي من
دمها ووقفت بجانبها وإذا بذلك التاجر الذي صاح على النسر تقدم إلى الذبيحة
فرآني واقفاً فلم يكلمني وقد فزع مني وارتعب وأتى الذبيحة وقلبها فلم يجد
فيها شيئاً فصاح صيحة عظيمة وقال واخيبتاه لا حول ولا قوة إلا بالله نعوذ
بالله من الشيطان الرجيم وهو يتندم ويخبط كفاً على كف ويقول واحسرتاه أي
شيء هذا الحال.. فتقدمت إليه فقال لي: من أنت وما سبب مجيئك إلى هذا المكان
فقلت له: لا تخف ولا تخش فإني إنسي من خيار الإنس وكنت تاجراً ولي حكاية
عظيمة وقصة غريبة وسبب وصولي إلى هذا الجبل وهذا الوادي حكاية عجيبة فلا
تخف فلك ما يسرك مني وأنا معي شيء كثير من حجر الألماس فأعطيك منه شيئاً
يكفيك وكل قطعة معي أحسن من كل شيء يأتيك فلا تجزع ولا تخف.
فعند ذلك شكرني الرجل ودعا لي وتحدث معي وإذا بالتجار سمعوا كلامي مع
رفيقهم فجاؤوا إلي وكان كل تاجر رمى ذبيحته فلما قدموا علينا سلموا علينا
وهنؤوني بالسلامة وأخذوني معهم وأعلمتهم بجميع قصتي وما قاسيته في سفرتي
وأخبرتهم بسبب وصولي إلى هذه الوادي ثم إني أعطيت لصاحب الذبيحة التي تعلقت
فيها شيئاً كثيراً مما كان معي ففرح بي جداً فما أحد وصل إلى هذا المكان
قبلك ونجا منه ولكن الحمد لله على بسلامتي ونجاتي من وادي الحيات ووصولي
إلى بلاد العمار. ولما طلع النهار قمنا وسرنا على ذلك الجبل العظيم وصرنا
ننظر في ذلك الجبل حيات كثيرة ولم نزل سائرين إلى أن أتينا بستاناً في
جزيرة عظيمة مليحة وفيها شجر الكافور وكل شجرة منها يستظل تحتها إنسان وإذا
أراد أن يأخذ منه أحد يثقب من أعلى الشجرة ثقباً بشيء طويل ويتلقى ما ينزل
منه فيسيل منه ماء الكافور ويعقد مثل الشمع وهو عسل ذلك الشجر وبعد وفي
تلك الجزيرة صنف من الوحوش يقال له الكركدن يرعى فيها رعياً مثل ما يرعى
البقر والجاموس في بلادنا ولكن جسم ذلك الوحش أكبر من جسم الجمل ويأكل
العلق وهو دابة عظيمة لها قرن واحد غليظ في وسط رأسها طوله قدر عشرة أذرع
وفيه صورة إنسان وفي تلك الجزيرة شيء من صنف البقر. وقد قال لنا البحريون
المسافرون وأهل السياحة في الجبال والأراضي أن هذا الوحش المسمى بالكركدن
يحمل الفيل الكبيرعلى قرنه ويرعى به في الجزيرة والسواحل ولا يشعر به ويموت
الفيل على قرنه ويسيح دهنه من حر الشمس على رأسه ويدخل في عينيه فيعمى
فيرقد في جانب السواحل فيجيء له طير الريخ فيحمله في مخالبه ويروح به عند
أولاده ويزقهم به وبما على قرنه وقد رأيت في تلك الجزيرة شيئاً كثيراً من
صنف الجاموس ليس له عندنا نظير وفي تلك الوادي شيء كثير من حجر ألماس الذي
حملته معي وخبأته في جيبي وقايضوني عليه ببضائع ومتاع من عندهم وحملوها لي
عهم وأعطوني دراهم ودنانير ولم أزل سائراً معهم وأنا أتفرج على بلاد الناس
وعلى ما خلق الله من واد إلى واد ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري إلى
أن وصلنا إلى مدينة البصرة وأقمنا بها أياماً قلائل ثم جئت إلى مدينة
بغداد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما رجع من غيبته ودخل مدينة بغداد
دار السلام وجاء إلى حارته ودخل داره ومعه من صنف حجر الألماس شيء كثير
ومعه مال ومتاع وبضائع لها صورة وقد اجتمع بأهله وأقاربه ثم تصدق ووهب
وأعطى وهادى جميع أهله وأصحابه وصار يأكل طيباً ويشرب طيباً ويلبس ملبساً
طيباً ويعاشر ويرافق ونسي جميع ما قاساه ولم يزل في عيش هني وصفاء خاطر
وانشراح صدر ولعب وطرب وصار كل من سمع بقدومه يجيء إليه ويسأله عن حال
السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه فيتعجب من شدة ما
قاساه ويهنئه بالسلامة وهذا آخر ما جرى لي وما اتفق لي في السفرة الثانية
ثم قال لهم وفي الغد إن شاء الله تعالى أحكي لكم حال السفرة الثالثة. فلما
فرغ السندباد البحري من حكايته للسندباد البري تعجبوا من ذلك وتشعوا عنده
وأمر للسندباد بمائة مثقال ذهباً فأخذها وتوجه إلى حال سبيله وهو يتعجب مما
قاساه السندباد البحري وشكره ودعا له في بيته ولما أصبح الصباح وأضاء
بنوره ولاح قام السندباد البري كما أمره ودخل إليه وصبح عليه فرحب به وجلس
معه حتى أتاه باقي أصحابه وجماعته فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وانشرحوا
ثم ابتدأ السندباد البحري بالكلام وقال:
الحكاية الثالثة من حكايات السندباد البحري وهي السفرة الثالثة اعلموا
يا إخواني واسمعوا مني حكاية فإنها أعجب من الحكايات المتقدمة قبل تاريخه
والله أعلم بغيبة واحكم أني فيما مضى وتقدم لما جئت من السفرة الثانية وأنا
في غاية البسط والانشراح فرحان بالسلامة وقد كسبت مالاً كثيراً كما حكيت
لكم أمس تاريخه وقد عوض الله علي ما راح مني أقمت بمدينة بغداد مدة من
الزمان وأنا في غاية الحظ والصفاء والبسط والانشراح فاشتاقت نفسي إلى السفر
والفرجة وتشوقت إلى المتجر والكسب والفوائد والنفس أمارة بالسوء فهممت
واشتريت شيئاً كثيراً من البضائع المناسبة لسفر البحر وحزمتها للسفر وسافرت
بها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة وجئت إلى ساحل البحر فرأيت مركباً
عظيماً وفيه تجار وركاب كثيرة أهل خير وناس ملاح طيبون أهل دين ومعروف
وصلاح فنزلت معهم في ذلك المركب وسافرنا على بركة الله تعالى بعونه وتوفيقه
وقد استبشرنا بالخير والسلامة. ولم نزل سائرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة
إلى جزيرة ومن مدينة إلى مدينة وفي كل مكان مررنا عليه نتفرج ونبيع ونشتري
ونحن في غاية الفرح والسرور إلى أن كنا يوماً من الأيام سائرين في وسط
البحر العجاج المتلاطم بالأمواج فإذا بالريس وهو جانب المركب ينظر إلى
نواحي البحر ثم
إنه لطم وجهه وطوى قلوع المركب ورمى مراسيه ونتف لحيته ومزق ثيابه وصاح
صيحة عظيمة فقلنا له يا ريس ما الخبر فقال اعلموا يا ركاب السلامة أن الريح
غلب علينا وعسف بنا في وسط البحر ورمتنا المقادير لسوء بختنا إلى جبل
القرود وما وصل إلى هذا المكان أحد ولم يسلم منه قط وقد أحس قلبي بهلاكنا
أجمعين. فما استتم قول الريس حتى جاءنا القرود وأحاطوا المركب من كل جانب
وهم شيء كثير مثل الجراد المنتشر في المركب وعلى البر فخفنا إن قتلنا منهم
أحداً أو طردناه أن يقتلونا لفرط كثرتهم والكثرة تغلب الشجاعة وبقينا
خائفين منهم أن ينهبوا رزقنا ومتاعنا وهم أقبح الوحوش وعليهم شعور مثل لبد
الأسود ورؤيتهم تفزع ولا يفهم لهم أحد كلاماً ولا خيراً وهم مستوحشون من
الناس صفر العيون وسود الوجوه صغار الخلقة طول كل واحد منهم أربعة أشبار
وقد طلعوا على حبال المرساة وقطعوها بأسنانهم وقطعوا جميع حبال المركب من
كل جانب فمال المركب من الريح ورسى على جبلهم وصار المركب في برهم وقبضوا
على جميع التجار والركاب وطلعوا إلى الجزيرة وأخذوا المركب بجميع ما كان
فيه وراحوا به. فبينما نحن في تلك الجزيرة نأكل من أثمارها وبقولها
وفواكهها ونشرب من الأنهار التي فيها إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك
الجزيرة فقصدناه ومشينا إليه فإذا هو قصر مشيد الأركان عالي الأسوار له باب
بدرفتين مفتوح وهو من خشب الأبانوس فدخلنا باب ذلك القصر فوجدنا له حظيراً
واسعأً مثل الحوش الواسع الكبير وفي دائره أبواب كثيرة وفي صدره مصطبة
عالية كبيرة وفيها أواني طبيخ معلقة على الكوانين وحواليها عظام كثيرة ولم
نر فيها أحد فتعجبنا من ذلك غاية العجب وجلسنا في حضير ذلك القصر. قليلاً
ثم بعد ذلك نمنا ولم نزل نائمين من ضحوة النهار إلى غروب الشمس وإذ بالأرض
قد ارتجت من تحتنا وسمعنا دوياً من الجو وقد نزل علينا من أعلى القصر شخص
عظيم الخلقة في صفة إنسان وهو أسود اللون طويل القامة كأنه نحلة عظيمة وله
عينان كأنهما شعلتان من نار وله أنياب مثل أنياب الخنازير وله فم عظيم
الخلقة مثل البئر وله مشافر مثل مشافر الجمل مرخية على صدره وله أذنان مثل
الحرامين مرخيتان على أكتافه وأظافر يديه مثل مخالب السبع فلما نظرناه على
هذه الحالة غبنا عن وجودنا وقوي خوفنا واشتد فزعنا وصرنا مثل الموتى من شدة
الخوف والجزع والفزع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الأربعون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري ورفقته لما رأوا هذا
الشخص الهائل الصورة وحصل لهم غاية الخوف والفزع فلما نزل على الأرض جلس
قليلاً على المصطبة ثم إنه قام وجاء عندنا ثم قبض على يدي من بين أصحابي
التجار ورفعني بيده عن الأرض وحبسني وقلبني فصرت في يده مثل اللقمة الصغيرة
وصار يحبسني مثل ما يحبس الجزار ذبيحة الغنم فوجدني ضعيفاً من كثرة القهر
هزيلاً من كثرة التعب والسفر وليس في شيء من اللحم فأطلقني من يده وأخذ
واحداً غيري من رفاقي وقلبه كما قلبني وحبسه كما حبسني وأطلقه ولم يزل
يحبسنا ويقلبنا واحداً بعد واحد إلى أن وصل إلى ريس المركب الذي كنا فيه
وكان رجلاً سميناً غليظاً عريض الأكتاف صاحب قوة وشدة فأعجبه وقبض عليه مثل
ما يقبض الجزار على ذبيحته ورماه على الأرض ووضع رجله على رقبته وجاء بسيخ
طويل فأدخله في حلقه حتى خرجه من دبره وأوقد ناراً شديدة وركب عليها ذلك
السيخ المشكوك فيه الريس ولم يزل يقلبه على الجمر حتى استوى لحمه وأطلعه من
النار وحطه أمامه وفسخه كما يفسخ الرجل الفرخة. وصار يقطع لحمه بأظافره
ويأكل منه ولم يزل على هذه الحالة حتى أكل لحمه ونهش عظمه. ولم يبق منه
شيئاً ورمى باقي العظام في جنب القصر. ثم إنه جلس قليلاً وانطرح ونام على
تلك المصطبة وصار يشخر مثل شخير الخروف أو البهيمة المذبوحة ولم يزل نائماً
إلى الصباح ثم قام وخرج إلى حال سبيله. فلما تحققنا بعده تحدثنا مع بعضنا
وبكينا على أرواحنا وقلنا ليتنا غرقنا في البحر وأكلتنا القرود خير من شوي
الإنسان على الجمر والله إن هذا الموت رديء ولكن ما شاء الله كان ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي ثم إننا قمنا وخرجنا إلى الجزيرة لننظر لنا مكان
نختفي فيه أو نهرب وقد هان علينا أن نموت ولا يشوى لحمنا بالنار فلم نجد
مكان نختفي فيه وقد أدركنا المساء فعدنا إلى القصر من شدة خوفنا وجلسنا
قليلاً وإذا بالأرض قد ارتجفت من تحتنا وأقبل ذلك الشخص الأسود وجاء عندنا
وصار يقلبنا واحداً بعد الآخر مثل المرة الأولى ويحبسنا حتى أعجبه واحد.
فقبض عليه وفعل به مثل ما فعل بالريس في أول يوم فشواه وأكله على تلك
المصطبة ولم يزل نائماً في تلك الليلة وهو يشخر مثل الذبيحة فلما طلع
النهار قام وراح إلى حال سبيله وتركنا على جري عادته فاجتمعنا وتحدثنا
وقلنا لبعضنا والله لأن نلقي أنفسنا في البحر ونموت غرقاً
خير من أن نموت حرقاً لأن هذه قتلة شنيعة فقال واحد منا اسمعوا كلامي
أننا نحتال عليه ونرتاح من همه ونريح المسلمين من عدوانه وظلمه. فقلت لهم
اسمعوا يا إخواني إن كان لابد من قتله فإننا نحول هذا الخشب وننقل شيئاً من
هذا الحطب ونعمل لنا فلكاً مثل المركب وبعد ذلك نحتال في قتله وننزل في
الفلك ونروح في البحر إلى أي محل يريده الله. وإننا نقعد في هذا المكان حتى
يمر علينا مركب فننزل فيه وإن لم نقدر على قتله ننزل ونروح في البحر ولو
كنا نغرق نرتاح من شوينا على النار ومن الذبح وإن سلمنا سلمنا وإن غرقنا
متنا شهداء. فقالوا جميعاً والله هذا رأي سديد وفعل رشيد واتفقنا على هذا
الأمر وشرعنا في فعله فنقلنا الأخشاب إلى خارج القصر وصنعنا فلكاً وربطناه
على جانب البحر ونزلنا فيه شيئاً من الزاد وعدنا إلى القصر. فلما كان وقت
المساء إذا بالأرض قد ارتجفت بنا ودخل علينا الأسود وهو كأنه الكلب العقور
ثم قلبنا وحبسنا واحداً بعد واحد ثم أخذ واحداً وفعل به مثل ما فعل بسابقيه
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك
السعيد أن السندباد البحري قال إن الأسود أخذ واحداً منا وفعل به مثل ما
فعل بسابقيه وأكله ونام على المصطبة وصار شخيره مثل الرعد فنهضنا وقمنا
وأخذنا سيخين من حديد من الأسياخ المنصوبة ووضعناهما في النار القوية حتى
احمرا وصارا مثل الجمر وقبضنا عليهما قبضاً شديداً وجئنا بهما إلى ذلك
الأسود وهو نائم يشخر ووضعناهما في عينيه واتكأنا عليهما جميعاً بقوتنا
وعزمنا فأدخلناهما في عينيه وهو نائم فانطمستا وصاح صيحة عظيمة فارتعبت
قلوبنا منه. ثم قام من فوق تلك المصطبة بعزمه وصار يفتش علينا ونحن نهرب
منه يميناً وشمالاً فلم ينظرنا وقد عمي بصره فخفنا منه مخافة شديدة وأيسنا
في تلك الساعة بالهلاك ويأسنا من النجاة فعند ذلك قصد الباب وهو يتحسس وخرج
منه وهو يصيح ونحن في غاية الرعب منه وإذا بالأرض ترتج من تحتنا من شدة
صوته. فلما خرج من القصر وراح إلى حال سبيله وهو يدور علينا ثم إنه رجع
ومعه أنثى أكبر
وأوحش منه خلقة فلما رأيناه والذي معه أفظع حالة منه خفنا غاية الخوف
فلما رأونا أسرعنا ونهضنا ففككنا الفلك الذي صنعناه ونزلنا فيه ودفعناه في
البحر وكان مع كل واحد منهم صخرة عظيمة وصارا يرجماننا بها إلى أن مات
أكثرنا من الرجم وبقي منا ثلاثة أشخاص أنا واثنان وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك
السعيد أن السندباد البحري لما نزل في الفلك هو وأصحابه وصار يرجمهم السود
ورفيقته فمات أكثرهم ولم يبق منهم إلا ثلاثة أشخاص فطلع بهم الفلك إلى
جزيرة قال فمشينا إلى آخر النهار فدخل علينا ونحن على هذه الحالة فنمنا
قليلاً واستيقظنا من نومنا وإذا بثعبان عظيم الخلقة كبير الجثة واسع الجوف
قد أحاط بنا وقصد واحداً فبلعه إلى أكتافه ثم بلع باقيه فسمعنا أضلاعه
تتكسر في بطنه وراح في حال سبيله فتعجبنا من ذلك غاية العجب وحزنا على
رفيقنا وصرنا في غاية الخوف على أنفسنا وقلنا والله هذا أمر عجيب وكل موتة
أشنع من السابقة وكنا فرحنا بسلامتنا من الأسود فما تمت الفرحة ولا حول ولا
قوة إلا بالله والله قد نجونا من الأسود ومن الغرق فكيف تكون نجاتنا من
هذه الآفة المشؤومة ثم إننا قمنا فمشينا في الجزيرة وأكلنا من ثمرها وشربنا
من أنهارها ولم نزل فيها إلى وقت المساء فوجدنا صخرة عظيمة عالية فطلعناها
ونمنا فوقها وقد طلعت أنا على فروعها. فلما دخل الليل وأظلم الوقت جاء
الثعبان وتلفت يميناً وشمالاً ثم إنه قصد تلك الشجرة التي نحن عليها ومشى
حتى وصل إلى رفيقي وبلعه حتى أكتافه والتف به على الشجرة فسمعت عظامه تتكسر
في بطنه ثم بلعه بتمامه وأنا أنظر بعيني ثم إن الثعبان نزل من فوق الشجرة
وراح إلى حال سبيله ولم أزل على تلك الشجرة في تلك الليلة. فلما طلع النهار
وبان النور ونزلت من فوق الشجرة وأنا مثل الميت من كثرة الخوف والفزع
وأردت أن ألقي بنفسي في البحر وأستريح من الدنيا فلم تهن علي روحي لأن
الروح عزيزة فربطت خشبة عريضة على أقدامي بالعرض وربطت واحدة مثلها على
جنبي الشمال ومثلها على جنبي اليمين ومثلها على بطني وربطت واحدة طويلة
عريضة من فوق رأسي بالعرض مثل التي تحت أقدامي وصرت أنا في وسط هذا الخشب
وهو محتاط بي من كل جانب وقد شددت ذلك شداً وثيقاً وألقيت نفسي بالجميع على
الأرض فصرت نائماً بين تلك الأخشاب وهي
محيطة بي كالمقصورة. فلما أمسى الليل أقبل الثعبان على جري عادته ونظر
إلي وقصدني فلم يقدر أن يبلغني وأنا على تلك الحالة والأخشاب حولي من كل
جانب فدار الثعبان حولي فلم يستطع الوصول إلي وأنا أنظر بعيني وقد صرت
كالميت من شدة الخوف والفزع وصار الثعبان يبعد عني ويعود إلي ولم يزل على
هذه الحالة وكلما أراد الوصول إلي ليبتلعني تمنعه تلك الأخشاب المشدودة علي
من كل جانب ولم يزل كذلك من غروب الشمس إلى أن طلع الفجر وبان النور
وأشرقت الش
قالت: بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة
بغداد رجل يقال له السندباد الحمال، وكان رجلاً فقير الحال يحمل تجارته على
رأسه فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديد
الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر، فمر على باب رجل تاجر قدامه
كنس ورش وهناك هواء معتدل، وكان بجانب الباب مصطبة عريضة فحط الحمال حملته
على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحمال لما ترك حملته على تلك المصطبة
ليستريح ويشم الهواء خرج عليه من ذلك الباب نسيم عليل ورائحة زكية فاستلذ
الحمال لذلك وجلس على جانب المصطبة فسمع في ذلك المكان نغم العود وأصوات
مطربة وأنواع إنشاد معربة وسمع أيضاً أصوات طيور تناغي فتسبح الله تعالى
باختلاف الأصوات وسائر اللغات من قماري وهزار وشحارير وبلابل وفاخت وكروان.
فعند ذلك تعجب من نفسه وطرب طرباً شديداً فتقدم إلى ذلك فوجد داخل البيت
بستاناً عظيماً. ونظر فيه غلمانا وعبيدا وخدامة وشيئاً لا يوجد إلا عند
الملوك والسلاطين وبعد ذلك هبت عليه رائحة أطعمة طيبة زكية من جميع الألوان
المختلفة والشراب الطيب فرفع طرفه إلى السماء وقال: سبحانك يا رب يا خالق
يا رزاق ترزق من تشاء بغير حساب اللهم إني أستغفرك من جميع الذنوب وأتوب
إليك من العيوب يا رب لا أعترض عليك في حكمك وقدرتك فإنك لا تسأل عما تفعل
وأنت على كل شيء قدير سبحانك تغني من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء لا
إله إلا أنت ما أعظم شأنك وما أقوى سلطانك وما أحسن تدبيرك قد أنعمت على من
تشاء من عبادك فهذا المكان صاحبه في غاية النعمة وهو متلذذ بالروائح
اللطيفة والمآكل اللذيذه والمشارب الفاخرة في سائر الصفات وقد حكمت في خلقك
بما تريد وما قدرته عليهم فمنهم تعبان ومنهم مستريح ومنهم سعيد ومنهم من
هو مثلي في غاية التعب والذل وأنشد يقول: فكم من شقي بلا راحةينعم في خير
فيء وظل وأصبحت في تعب زائدوأمري عجيب وقد زاد حملي وغيري سعيد بلا شقوةوما
حمل الدهر يوماً كحملي وكل الخلائق من نطفةأنا مثل هذا وهذا كمثلي ولكن
شتان ما بينناوشتان بين خمر وخل ولست أقول عليك افتراءفأنت حكيم حكمت بعدل
فلما فرغ السندباد الحمال من شعره ونظمه أراد أن يحمل حملته ويسير إذ قد
طلع عليه من ذلك الباب غلام صغير السن جميل الوجه مليح القد فاخر الملابس
فقبض يد الحمال وقال له: ادخل لتكلم سيدي فإنه يدعوك فلم يرد الحمال الدخول
مع الغلام فلم يقدر على ذلك فترك حملته عند الباب في وسط المكان ودخل مع
الغلام داخل الدار فوجد داراً واسعة وعليها أنس ووقار ونظر إلى مجلس عظيم
فنظر فيه من السادات الكرام فرأى من جميع أصناف الزهر وجميع أصناف المشموم
ومن أنواع النقل والفواكه و كثير من أصناف الأطعمة النفيسة وفيه مشروب من
خواص دوالي الكروم وفيه آلات الطرب من أصناف الجواري الحسان كل منهن في
مرتبته على حسب الترتيب. وفي صدر ذلك المجلس رجل عظيم محترم قد بدأه الشيب
في عوارضه وهو مليح الصورة حسن المنظر وعليه هيبة ووقار وعز وافتخار فعند
ذلك بهت السندباد الحمال وقال في نفسه: والله إن هذا المكان من بقع الجنان
أو أنه يكون قصر ملك أو سلطان ثم تأدب وسلم عليهم ..... .. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت : بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد الحمال لما قبل الأرض بين
أيديهم وقف منكس الرأس متخشع فأذن له صاحب المكان بالجلوس فجلس وقد قربه
إليه وصار يؤانسه بالكلام ويرحب به ثم إنه قدم له شيئاً من أنواع الطعام
المفتخر الطيب النفيس فتقدم السندباد الحمال وسمى وأكل حتى اكتفى وشبع
وقال: الحمد لله على كل حال ثم إنه غسل يديه وشكرهم على ذلك. فقال صاحب
المكان: مرحبا بك ونهارك مبارك فما يكون اسمك وما تعاني من الصنائع فقال
له: يا سيدي اسمي السندباد الحمال وأنا أحمل على رأسي أسباب الناس بالأجرة
فتبسم صاحب المكان وقال له: اعلم يا حمال أن اسمك مثل اسمي فأنا السندباد
البحري ولكن يا حمال قصدي أن تسمعني الأبيات التي كنت تنشدها وأنت على
الباب فاستحى الحمال وقال له: بالله عليك لا تؤاخذني فإن التعب والمشقة
وقلة ما في اليد تعلم الإنسان قلة الأدب والسفه. فقال له: لا تستحي فأنت
صرت أخي فانشد هذه الأبيات فإنها أعجبتني لما سمعتها منك وأنت تنشدها على
الباب فعند ذلك أنشده الحمال تلك الأبيات فأعجبته وطرب لسماعها وقال له:
اعلم أن لي قصة عجيبة وسوف أخبرك بجميع ما صار لي وما جرى لي من قبل أن
أصير في هذه السعادة واجلس في هذا المكان الذي تراني فيه فإني ما وصلت إلى
هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد ومشقة عظيمة وأهوال كثيرة وكم
قاسيت في الزمن الأول من التعب والنصب وقد سافرت سبع سفرات وكل سفرة لها
حكاية تحير الفكر وكل ذلك بالقضاء والقدر وليس من المكتوب مفر ولا مهروب.
الحكاية الأولى من حكايات السندباد البحري وهي أول السفرات اعلموا يا سادة
يا كرام أنه كان لي أب تاجر وكان من أكابر الناس والتجار وكان عنده مال
كثير ونوال جزيل وقد مات وأنا ولد صغير وخلف لي مالاً وعقاراً وضياعاً فلما
كبرت وضعت يدي على الجميع وقد أكلت أكلاً مليحاً وشربت شرباً مليحاً
وعاشرت الشباب وتجملت بلبس الثياب ومشيت مع الخلان والأصحاب واعتقدت أن ذلك
يدوم لي وينفعني ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان ثم إني رجعت إلى
عقلي وأفقت من غفلتي فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال وقد ذهب جميع ما كان
عندي ولم أستفق لنفسي إلا وأنا مرعوب مدهوش وقد تفكرت حكاية كنت أسمعها
سابقاً وهي حكاية سيدنا سليمان بن داود عليه السلام في قوله: ثلاثة خير من
ثلاثة يوم الممات خير من يوم الولادة وكلب حي خير من سبع ميت والقبر خير من
القصر. ثم إني قمت وجمع ما كان عندي من أثاث وملبوس وبعته ثم بعت عقاري
وجميع ما تملك يدي فجمعت ثلاثة آلاف درهم وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد
الناس وتذكرت كلام بعض الشعراء حيث قال:
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي يغوص
البحر من طلب اللآلئ ويحظى بالسعادة والنوال
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
فعند ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعاً وأسباباً وشيئاً من أغراض
السفر وقد سمحت لي نفسي بالسفر في البحر فنزلت المركب وانحدرت إلى مدينة
البصرة مع جماعة من التجار وسرنا في البحر أياماً وليالي وقد مررنا بجزيرة
بعد جزيرة ومن بحر إلى بحر ومن بر إلى بر وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري
ونقايض بالبضائع فيه وقد انطلقنا في سير البحر إلى أن وصلنا إلى جزيرة
كأنها روضة من رياض الجنة فأرسى بنا صاحب المركب على تلك الجزيرة ورمى
مراسيها وشد السقالة فنزل جميع من كان في المركب في تلك الجزيرة وعملوا لهم
كوانين وأوقدوا فيها النار واختلفت أشغالهم فمنهم من صار يطبخ ومنهم من
صار يغسل ومنهم من صار يتفرج وكنت أنا من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة.
وقد اجتمع الركاب على أكل وشرب ولهو ولعب فبينما نحن على تلك الحالة وإذا
بصاحب المركب واقف على جانبه وصاح بأعلى صوته: يا ركاب السلامة أسرعوا
واطلعوا إلى المركب وبادروا إلى الطلوع واتركوا أسبابكم واهربوا بأرواحكم
وفوزوا بسلامة أنفسكم من الهلاك فإن هذه الجزيرة التي أنتم عليها ما هي
جزيرة وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل
الجزيرة وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان فلما وقدتم عليها النار
أحست بالسخونة فتحركت وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون جميعاً
فاطلبوا النجاة لأنفسكم قبل الهلاك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت شهرزاد : بلغني أيها الملك السعيد أن ريس المركب لما صاح على
الركاب وقال لهم: اطلبوا النجاة لأنفسكم واتركوا الأسباب ولما سمع الركاب
كلام ذلك الريس أسرعوا وبادروا بالطلوع إلى المركب وتركوا الأسباب وحوائجهم
ودسوتهم وكوانينهم فمنهم من لحق المركب ومنهم من لم يلحقه وقد تحركت تلك
الجزيرة ونزلت إلى قرار البحر بجميع ما كان عليها وانطبق عليها البحر
العجاج المتلاطم بالأمواج وكنت من جملة من تخلف في الجزيرة فغرقت في البحر
مع جملة من غرق ولكن الله تعالى أنقذني ونجاني من الغرق ورزقني بقطعة خشب
كبيرة من القطع التي كانوا يغسلون فيها فمسكتها بيدي وركبتها من حلاوة
الروح ورفست في الماء برجلي مثل المجاذيف والأمواج تلعب بي يميناً وشمالاً.
وقد نشر الريس قلاع المركب وسافربالذين طلع بهم في المركب ولم يلتفت لمن
غرق منهم ومازلت أنظر إلى ذلكالمركب حتى خفي عن عيني وأيقنت بالهلاك ودخل
علي الليل وأنا على هذه الحالة فمكثت على ما أنا فيه يوماً وليلة وقد
ساعدني الريح والأمواج إلى أن رست بي تحت جزيرة عالية وفيها أشجار مطلة على
البحر فمسكت فرعاً من شجرة عالية وتعلقت به بعدما أشرفت على الهلاك وتمسكت
به إلى أن طلعت إلى الجزيرة فوجدت في قدمي خدلاً وأثر أكل السمك في
بطونهما ولم أشعر بذلك من شدة ما كنت فيهمن الكرب والتعب , وقد ارتميت في
الجزيرة وأنا مثل الميت وغبت عن وجودي وغرقت في دهشتي ولم أزل على هذه
الحالة إلى ثاني يوم . وقد طلعت الشمس علي وانتبهت في الجزيرة فوجدت رجلي
قد ورمتا , فسرت حزيناً على ما أنا فيه فتارة أزحف وتارة أحبو على ركبي
وكان في الجزيرة فواكه كثيرة وعيون ماء عذب , فصرت آكل من تلك الفواكه ولم
أزل على هذه الحالة مدة أيام وليال فانتعشت نفسي وردت لي روحي وقويت حركتي
وصرت أتفكر وأمشي في جانب الجزيرة وأتفرج بين الأشجار مما خلق الله تعالى
وقد عملت لي عكازاً من تلك الأشجار أتوكأ عليه , ولم أزل على هذه الحالة
إلى أن تمشيت يوماً من الأيام في جانب الجزيرة فلاح لي شبح من بعيد فظننت
أنه وحش أو أنه دابة من دواب البحر فتمشيت إلى نحوه ولم أزل أتفرج عليه
وإذا هو فرس عظيم المنظر مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر , فدنوت منه
فصرخ علي صرخة عظيمة فارتعبت منه وأردت أن أرجع , وإذا برجل خرج من تحت
الأرض وصاح علي واتبعني وقال لي : من أنت ومن أين جئت وما سبب وصولك إلى
هذا المكان ? فقلت له : يا سيدي اعلم أني رجل غريب وكنت في مركب وغرقت أنا
وبعض من كان فيها فرزقني الله بقطعة خشب فركبتها وعامت بي إلى أن رمتني
الأمواج في هذه الجزيرة . فلما سمع كلامي أمسكني من يدي وقال لي : امش معي
فنزل بي في سرداب تحت الأرض ودخل بي إلى قاعة كبيرة تحت الأرض وأجلسني في
صدر تلك القاعة وجاء لي بشيء من الطعام وأنا كنت جائعاً فأكلت حتى شبعت
واكتفيت وارتاحت نفسي , ثم إنه سألني عن حالي وما جرى لي , فأخبرته بجميع
ما كان من أمري من المبتدأ إلى المنتهى , فتعجب من قصتي . فلما فرغت من
حكايتي قلت : بالله عليك ياسيدي لا تؤاخذني فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي وما
جرى لي وأنا أشتهي منك أن تخبرني من أنت وما سبب جلوسك في هذه القاعة التي
تحت ? فقال لي : اعلم أننا جماعة متفرقون في هذه الجزيرة على جوانبها ونحن
سياس الملك المهرجان وتحت أيدينا جميع خيوله وفي كل شهر عند القمر نأتي
بالخيل الجياد ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر ونختفي في هذه القاعة تحت
الأرض حتى لا يرانا أحد فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل
ويطلع على البر فلم ير أحداً فيثب عليها ويقضي منها حاجته وينزل عنها ويريد
أخذها معه فلا تقدر أن تسير معه من الرباط فيصيح عليه ويضربها برأسه
ورجليه ويصيح فنسمع صوته فنعلم أنه نزل عنها فنطلع صارخين عليه فيخاف وينزل
البحر والفرس تحمل وتلد مهراً أو مهرة تساوي خزنة مال ولا يوجد لها نظير
على وجه الأرض وهذا وقت طلوع الحصان وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك
المهرجان . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السايس قال للسندباد البحري آخذك معي
إلى الملك المهرجان وأفرجك على بلادنا واعلم أنه لولا اجتماعك علينا ما كنت
ترى أحداً في هذا المكان غيرنا وكنت تموت كمداً ولا يدري بك أحد ولكن أنا
أكون سبب حياتك ورجوعك إلى بلادك فدعوت له وشكرته على فضله وإحسانه فبينما
نحن في هذا الكلام وإذا بالحصان قد طلع من البحر وصرخ صرخة عظيمة ثم وثب
على الفرس فلما فرغ منها نزل عنها وأراد أخذها معه فلم يقدر ورفست وصاحت
عليه فأخذ الرجل السايس سيفاً بيده ودرقة وطلع من باب تلك القاعة وهو يصيح
على رفقته ويقول اطلعوا إلى الحصان ويضرب بالسيف على الدرقة فجاء جماعة
بالرماح صارخين فجفل منهم الحصان وراح إلى حال سبيله ونزل في البحر مثل
الجاموس وغاب تحت الماء. فعند ذلك جلس الرجل قليلاً وإذا هو بأصحابه قد
جاؤه ومع كل واحد فرس يقودها فنظروني عنده فسألوني عن أمري فأخبرتهم بما
حكيته لو وقربوا مني ومدوا السماط وأكلوا وعزموني فأكلت معهم ثم إنهم قاموا
وركبوا الخيول وأخذوني إلى مدينة الملك المهرجان وقد دخلوا عليه وأعلموه
بقصتي فطلبني فأدخلوني عليه وأوقفوني بين يديه فسلمت عليه فرد علي السلام
ورحب بي وحياني بإكرام وسألني عن حالي فأخبرته بجيع ما حصل لي وبكل ما
رأيته من المبتدأ إلى المنتهى. فعند ذلك تعجب مما وقع لي ومما جرى لي فعند
ذلك قال لي يا ولدي والله لقد حصل لك مزيد السلامة ولولا طول عمرك ما نجوت
من هذه الشدائد ولكن الحمد لله على السلامة ثم إنه أحسن إلي وأكرمني وقربني
إليه وصار يؤانسني بالكلام والملاطفة وجعلني عنده عاملاً في ميناء البحر
وكاتباً على كل مركب عبر إلى البر وصرت واقفاً عنده لأقضي له مصالحه وهو
يحسن إلي وينفعني من كل جانب وقد كساني كسوة مليحة فاخرة وصرت مقدماً عنده
في الشفاعات وقضاء مصالح الناس ولم أزل عنده مدة طويلة. وأنا كلما اشق على
جانب البحر اسأل التجار والمسافرين والبحريين عن ناحية مدينة بغداد لعل
أحداً يخبرني عنها فأروح معه إليها وأعود إلى بلادي فلم يعرفها أحد ولم
يعرف من يروح إليها وقد تحيرت في ذلك وسئمت من طول الغربة ولم أزل على هذه
الحالة مدة من الزمان إلى أن جئت يوماً من الأيام ودخلت على الملك المهرجان
فوجدت عنده جماعة من الهنود فسلمت عليهم فردوا علي السلام ورحبوا بي وقد
سألوني عن بلادي فذكرتها لهم وسألتهم عن بلادهم ذركوا لي أنهم أجناس مختلفة
فمنهم الشاركية وهم أشرف أجناسهم لا يظلمون أحداً ولا يقهرونه. ومنهم
جماعة تسمى البراهمة وهم قوم لا يشربون الخمر أبداً وإنما هم أصحاب حظ
وصفاء ولهو وطرب وجمال وخيول ومواشي وأعلموني أن صنف الهنود يفترق على
اثنين وسبعين فرقة فتعجبت من ذلك غاية العجب. ورأيت في مملكة المهرجان
جزيرة من جملة الجزائر يقال لها كابل يسمع فيها ضرب الدفوف والطبول طول
الليل وقد أخبرنا أصحاب الجزائر والمسافرين أنهم أصحاب الجد والرأي. ورأيت
في البحر سمكة طولها مائتا ذراع ورأيت أيضاً سمكاً وجهه مثل وجه البوم
ورأيت في تلك السفرة كثيراً من العجائب والغرائب مما لو حكيته لكم لطال
شرحه ولم أزل أتفرج على تلك
الجزائر وما فيها إلى أن وقفت يوماً من الأيام على جانب البحر وفي يدي
عكاز حسب عاداتي وإذا بمركب قد أقبل وفيه تجار كثيرون. فلما وصل إلى ميناء
المدينة وفرضته وطوى الريس قلوعه وأرسله على البر ومد السقالة واطلع
البحرية جميع ما كان في ذلك المركب إلى البر وأبطأوا في تطليعه وأنا واقف
أكتب عليهم فقلت لصاحب المركب هل بقي في مركبك شيء فقال نعم يا سيدي معي
بضائع في بطن المركب ولكن صاحبها غرق معنا في البحر في بعض الجزائر ونحن
قادمون في البحر وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس قال للسندباد البحري أن صاحب
هذه البضائع غرق وصارت بضائعه معنا فغرضنا أننا نبيعها ونأخذ ثمنها لأجل أن
نوصله إلى أهله في مدينة بغداد دار السلام فقلت للريس ما يكون اسم ذلك
الرجل صاحب البضائع فقال اسمه السندباد البحري وقد غرق معنا في البحر. فلما
سمعت كلامه حققت النظر فيه فعرفته وصرخت عليه صرخة عظيمة وقلت يا ريس اعلم
أني أنا صاحب البضائع التي ذكرتها وأنا السندباد البحري الذي نزلت من
المركب في الجزيرة مع جملة من نزل من التجار ولما تحركت السمكة التي كنا
عليها وصحت أتت علينا طلع من طلع وغرق الباقي وكنت أنا من جملة من غرق ولكن
الله تعالى سلمني ونجاني من الغرق بقطعة كبيرة من القطع التي كان الركاب
يغسلون فيها. فركبتها وصرت أرفس برجلي وساعدني الريح والموج إلى أن وصلت
إلى هذه الجزيرة فطلعت فيها وأعانني الله تعالى بسياس الملك المهرجان
فأخبرته بقصتي فأنعم علي وجعلني كاتباً على ميناء هذه المدينة فصرت أنتفع
بخدمته وصار لي عنده قبول وهذه البضائع التي معك بضائعي ورزقي قال الريس لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما بقي لأحد أمانة ولا ذمة فقلت له يا
ريس ما سبب ذلك وأنك سمعتني أخبرتك بقصتي فقال الريس لأنك سمعتني أقول أن
معي بضائع صاحبها غرق فتريد أن تأخذها بلا حق وهذا حرام عليك فإننا رأيناه
لما غرق وكان معه جماعة من الركاب كثيرون وما نجا فقلت له يا ريس اسمع قصتي
وافهم كلامي يظهر لك صدقي فإن الكذب سيمة المنافقين ثم إني حكيت للريس
جميع ما كان مني من حين خرجت معه من مدينة بغداد إلى أن وصلنا تلك
الجزيرة التي غرقنا فيها وأخبرته ببعض أحوال جرت بيني وبينه فعند ذلك
تحقق الريس والتجار من صدقي فعرفوني وهنوني بالسلامة وقالوا جميعاً والله
ما كنا نصدق بأنك نجوت من الغرق ولكن رزقك الله عمراً جديداً ثم إنهم
أعطوني البضائع فوجدت اسمي مكتوباً عليها ولم ينقص منها شيء ففتحتها وأخرجت
منها شيئاً نفيساً غالي الثمن وحملته معي بحرية المركب وطلعت به إلى الملك
على سبيل الهدية وأعلمت الملك بأن هذا المركب الذي كنت فيه وأخبرته أن
بضائعي وصلت إلي بالتمام والكمال وأن هذه الهدية منها. فتعجب الملك من ذلك
الأمر غاية العجب وظهر له صدقي في جميع ما قلته وقد أحبني محبة شديدة
وأكرمني إكراماً زائداً ووهب لي شيئاً كثيراً في نظير هديتي ثم بعت حمولتي
وما كان معي من البضائع وكسبت فيها شيئاً كثيراً واشتريت بضاعة وأسباباً
ومتاعاً من تلك المدينة. ولما أراد تجار المركب السفر شحنت جميع ما كان معي
في المركب ودخلت عند الملك وشكرته على فضله وإحسانه ثم استأذنته في السفر
إلى بلادي وأهلي فودعني وأعطاني شيئاً كثيراً عند سفري من متاع تلك المدينة
فودعته ونزلت المركب وسافرنا بإذن الله تعالى وخدمنا السعد وساعدتنا
المقادير ولم نزل مسافرين ليلاً ونهاراً إلى أن وصلنا بالسلامة إلى مدينة
البصرة وطلعنا إليها وأقمنا فيها زمناً قليلاً وقد فرحت بسلامتي وعودتي إلى
بلادي. وبعد ذلك توجهت إلى مدينة بغداد دار السلام ومعي الحمول والمتاع
والأسباب شيء كثير له قيمة عظيمة ثم جئت إلى حارتي ودخلت بيتي وقد جاء جميع
أهلي وأصحابي ثم إني اشتريت لي خدماً وحشماً ومماليك وسراري وعبيداً حتى
صار عندي شيء كثير واشتريت لي دوراً وأماكن وعقاراً أكثر من الأول ثم إني
عاشرت الأصحاب ورافقت الخلان وصرت أكثر مما كنت عليه في الزمن الأول ونسيت
جميع ما كنت قاسيت من التعب والغربة والمشقة وأهوال السفر واشتغلت باللذات
والمسرات والمآكل الطيبة والمشارب النفيسة ولم أزل على هذه الحالة. وهذا ما
كان في أول سفراتي وفي غد إن شاء الله تعالى أحكي لكم الثانية من السبع
سفرات. ثم إن السندباد البحري عشى السندباد البري عنده وأمر له بمائة مثقال
ذهباً وقال له آنستنا في هذا النهار فشكره الحمال وأخذ معه ما وهبه له
وانصرف إلى حال سبيله وهو متفكر فيما يقع وما يجري للناس ويتعجب غاية العجب
ونام تلك الليلة في منزله. ولما أصبح الصباح جاء إلى بيت السندباد البحري
ودخل عنده فرحب به وأكرمه وأجلسه
عنده ولما حضر بقية أصحابه قدم لهم الطعام والشراب وقد صفا لهم الوقت
وحصل لهم الطرب فبدأ السندباد البحري بالكلام وقال اعلموا يا إخواني أنني
كنت في ألذ عيش وأصفى سرور على ما تقدم ذكره لكم بالأمس. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما اجتمع عنده
أصحابه قال لهم إني كنت في ألذ عيش إلى أن خطر ببالي يوماً من الأيام السفر
إلى بلاد الناس واشتاقت نفسي إلى التجارة والتفرج في البلدان والجزر
واكتساب المعاش فهممت في ذلك الأمر وأخرجت من مالي شيئاً كثيراً اشتريت به
بضائع وأسباباً تصلح للسفر وحزمتها وجئت إلى الاسحل فوجدت مركباً مليحاً
جديداً وله قلع قماش مليح وهو كثير الرجال زائد العدة وأنزلت حمولتي فيه
أنا وجماعة من التجار وقد سافرنا في ذلك النهار وطاب لنا السفر ولم نزل من
بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة وكل محل رسونا عليه نقابل التجار وأرباب
الدولة والبائعين والمشترين ونبيع ونشتري ونقايض بالبضائع فيه. ولم نزل على
هذه الحالة إلى أن ألقتنا المقادير على جزيرة كثيرة الأشجار يانعة الأثمار
فائحة الأزهار مترنمة الأطيار صافية الأنهار ولكن ليس بها ديار ولا نافخ
نار فأرسى بنا الريس على تلك الجزيرة وقد طلع التجار والركاب إلى تلك
الجزيرة يتفرجون على ما بها من الأشجار والأطيار ويسبحون الله الواحد
القهار ويتعجبون من قدرة الملك الجبار فعند ذلك طلعت إلى الجزيرة مع جملة
من طلع وجلست على عين ماء صاف بين الأشجار وكان معي شيء من المأكل فجلست في
هذا المكان آكل ما قسم الله تعالى لي وقد طاب النسيم بذلك المكان وصفا لي
الوقت فأخذتني سنة من النوم فارتحت في ذلك المكان وقد استغرقت في النوم
وتلذذت بذلك النسيم الطيب والروائح الزكية ثم إني قمت فلم أجد أحداً لا من
التجار ولا من البحرية فتركوني في الجزيرة وقد التفت فيها يميناً وشمالاً
فلم أجد بها أحد غيري فحصل عندي قهر شديد ما عليه من مزيد وكادت مرارتي
تنفقع من شدة ما أنا فيه من الغم والحزن والتعب ولم يكن معي شيء من حطام
الدنيا ولا من المأكل ولا من المشرب وصرت وحيداً وقد تعبت في نفسي ويئست من
الحياة وبعد ذلك قمت على حيلي وتمشيت في الجزيرة يميناً وشمالاً وصرت لا
أستطيع الجلوس في محل واحد ثم إني صعدت على شجرة عالية وصرت أنظر من
فوقها يميناً وشمالاً فلم أر غير سماء وماء وأشجار وأطيار وجزر ورمال ثم
حققت النظر فلاح لي في الجزيرة شيء أبيض عظيم الخلقة فنزلت من فوق الشجرة
وقصدته وصرت أمشي إلى ناحيته ولم أزل سائراً إلى أن وصلت غليه وإذا به قبة
كبيرة بيضاء شاهقة فيالعلو كبيرة الدائرة فدنوت منها ودرت حولها فلم أجد
لها باباً ولم أجد لي قوة ولا حركة في الصعود عليها من شدة النعومة فعلمت
مكان وقوفي ودرت حول القبة أقيس دائرتها فإذا هي خمسون خطوة وافية فصرت
متفكراً في الحيلة الموصلة إلى دخولها وقد قرب زوال النهار وغروب الشمس
وإذا بالشمس قد خفيت والجو قد أظلم واحتجبت الشمس عني ظننت أنه جاء على
الشمس غمامة وكان ذلك في زمن الصيف فتعجبت ورفعت رأسي وتأملت في ذلك فرأيت
طيراً عظيم الخلقة كبير الجثة عريض الأجنحة طائراً في الجو وهو الذي غطى
عين الشمس وحجبها عن الجزيرة فازددت من ذلك عجباً ثم إني تذكرت حكاية.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما زاد تعجبه من
الطائر الذي رآه في الجزيرة تذكر حكاية أخبره بها قديماً أهل السياحة
والمسافرون وهي أن في بعض الجزائر طيراً عظيماً يقال له الرخ يزق أولاده
بالأفيال فتحققت أن القبة التي رأيتها إنما هي بيضة من بيض الرخ ثم إني
تعجبت من خلق الله تعالى فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذلك الطير نزل
على تلك القبة وحضنها بجناحيه وقد مد رجليه من خلفه على الأرض ونام عليها
فسبحان من لا ينام فعند ذلك فككت عمامتي من فوق رأسي وثنيتها وفتلتها حتى
صارت مثل الحبل وتحزمت بها وشددت وسطي وربطت نفسي في رجلي ذلك الطير
وشددتها شداً وثيقاً وقلت في نفسي لعل هذا يوصلني إلى بلاد المدن والعمار
ويكون ذلك أحسن من جلوسي في هذه الجزيرة وبت تلك الليلة ساهراً خوفاً من أن
أنام فيطير بي على حين غفلة. فلما طلع الفجر وبان الصباح قام الطائر من
على بيضته وصاح صيحة عظيمة وارتفع بي إلى الجو حتى ظننت أنه وصل إلى عنان
السماء وبعد ذلك تنازل بي حتى نزل إلى الأرض وحط على مكان مرتفع عال فلما
وصلت إلى الأرض أسرعت وفككت الرباط من رجليه وأنا أنتفض مشيت في ذلك المكان
ثم إنه أخذ شيئاً من على وجه الأرض في مخالبه وطار إلى عنان
السماء فتأملته فإذا هو حية عظيمة الخلقة كبيرة الجسم قد أخذها وذهب بها
إلى البحر فتعجبت من ذلك ثم إني تمشيت في ذلك المكان فوجدت نفسي في مكان
عال وتحته واد كبير واسع عميق وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد
أن يرى أعلاه من فرط علوه وليس لأحد قدرة على الطلوع فوقه فلمت نفسي على ما
فعلته وقلت يا ليتني مكثت في الجزيرة فإنها أحسن من هذا المكان القفر لأن
الجزيرة كان يوجد فيها شيء آكله من أصناف الفواكه وأشرب من أنهارها وهذا
المكان ليس فيه أشجار ولا أثمار ولا أنهار فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم أنا كل ما أخلص من مصيبة أقع فيما هو أعظم منها وأشد. ثم إني قمت
وقويت نفسي ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس الذي يثقبون به
المعادن والجواهر ويثقبون به الصيني والجزع منه شيئاً ولا أن يكسره إلا
بحجر الرصاص وكل تلك الوادي حيات وأفاع وكل واحدة مثل النخلة ومن أعظم
خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته وتلك الحيات يظهرن في الليل ويختفين في
النهار خوفاً من طير الرخ والنسر أن يختطفها ويقطعها ولا أدري ما سبب ذلك.
فأقمت بتلك الوادي وأنا متندم على ما فعلته وقلت في نفسي والله إني قد عجلت
بالهلاك على نفسي وقد ولى النهار علي فصرت أمشي في تلك الوادي والتفت على
محل أبيت فيه وأنا خائف من تلك الحيات ونسيت أكلي وشربي ومعاشي واشتغلت
بنفسي فلاح لي مغارة بالقرب مني فمشيت فوجدت بابها ضيقاً فدخلتها ونظرت إلى
حجر كبير عند بابها فدفعته وسددت به باب تلك المغارة وأنا داخلها وقلت في
نفسي قد أمنت لما دخلت في هذا المكان وإن طلع النهار اطلع وأنظر ما تفعل
القدرة. ثم التفت في داخل المغارة فرأيت حية عظيمة نائمة في صدر المغارة
على بيضها فاقشعر بدني وأقمت رأسي وسلمت أمري للقضاء والقدر وبت ساهراً
طوال الليل إلى أن طلع الفجر ولاح فأزحت الحجر الذي سددت به باب المغارة
وخرجت منه وأنا مثل السكران دائخ من شدة السهر والجوع والخوف وتمشيت في
الوادي. وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة قد سقطت من قدامي ولم أجد
أحداً فتعجبت من ذلك أشد العجب وتفكرت حكاية أسمعها من قديم الزمان من بعض
التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الألماس الأهوال العظيمة
ولا يقدر أحد أن يسلك إليه ولكن التجار
الذين يجلبونه يعملون حيلة في الوصول إليه ويأخذون الشاة من الغنم
ويذبحونها ويسلخونها ويرشون لحمها ويرمونه من أعلى ذلك الجبل إلى أرض
الوادي فتنزل وهي طرية فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة ثم تتركها التجار إلى
نصف النهار فتنزل الطيور من النسور والريخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في
مخالبها وتصعد إلى أعلى الجبل فيأتيها التجار وتصيح عليها وتصير من عند ذلك
اللحم وتخلص منه الحجارة اللاصقة به ويتركون اللحم للطيور والوحوش ويحملون
الحجارة إلى بلادهم ولا أحد يقدر أن يتوصل إلى مجيء حجر الألماس إلا بهذه
الحيلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري صار يحكي لأصحابه
جميع ما حصل له في جبل الماس ويخبرهم أن التجار لا يقدرون على مجيء شيء منه
إلا بحيلة مثل الذي ذكره ثم قال فلما نظرت إلى تلك الذبيحة تذكرت هذه
الحكاية قمت وجئت عند الذبيحة فنقيت من هذه الحجارة شيئاً كثيراً وأدخلته
في جيبي وبين ثيابي وصرت أنقي وأدخل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي
فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة فربطت نفسي عليها ونمت على
ظهري وجعلتها على صدري وأنا قابض عليها فصارت عالية على الأرض وإذا بنسر
نزل على تلك الذبيحة وقبض عليها بمخالبه وأقلع بها إلى الجو وأنا معلق بها
ولم يزل طائراً بها إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل وحطها وأراد أن ينهش
منها وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذلك النسر وشيء يخبط بالخشب على ذلك
الجبل فجفل النسر وطار إلى الجو ففككت نفسي من الذبيحة وقد تلوثت ثيابي من
دمها ووقفت بجانبها وإذا بذلك التاجر الذي صاح على النسر تقدم إلى الذبيحة
فرآني واقفاً فلم يكلمني وقد فزع مني وارتعب وأتى الذبيحة وقلبها فلم يجد
فيها شيئاً فصاح صيحة عظيمة وقال واخيبتاه لا حول ولا قوة إلا بالله نعوذ
بالله من الشيطان الرجيم وهو يتندم ويخبط كفاً على كف ويقول واحسرتاه أي
شيء هذا الحال.. فتقدمت إليه فقال لي: من أنت وما سبب مجيئك إلى هذا المكان
فقلت له: لا تخف ولا تخش فإني إنسي من خيار الإنس وكنت تاجراً ولي حكاية
عظيمة وقصة غريبة وسبب وصولي إلى هذا الجبل وهذا الوادي حكاية عجيبة فلا
تخف فلك ما يسرك مني وأنا معي شيء كثير من حجر الألماس فأعطيك منه شيئاً
يكفيك وكل قطعة معي أحسن من كل شيء يأتيك فلا تجزع ولا تخف.
فعند ذلك شكرني الرجل ودعا لي وتحدث معي وإذا بالتجار سمعوا كلامي مع
رفيقهم فجاؤوا إلي وكان كل تاجر رمى ذبيحته فلما قدموا علينا سلموا علينا
وهنؤوني بالسلامة وأخذوني معهم وأعلمتهم بجميع قصتي وما قاسيته في سفرتي
وأخبرتهم بسبب وصولي إلى هذه الوادي ثم إني أعطيت لصاحب الذبيحة التي تعلقت
فيها شيئاً كثيراً مما كان معي ففرح بي جداً فما أحد وصل إلى هذا المكان
قبلك ونجا منه ولكن الحمد لله على بسلامتي ونجاتي من وادي الحيات ووصولي
إلى بلاد العمار. ولما طلع النهار قمنا وسرنا على ذلك الجبل العظيم وصرنا
ننظر في ذلك الجبل حيات كثيرة ولم نزل سائرين إلى أن أتينا بستاناً في
جزيرة عظيمة مليحة وفيها شجر الكافور وكل شجرة منها يستظل تحتها إنسان وإذا
أراد أن يأخذ منه أحد يثقب من أعلى الشجرة ثقباً بشيء طويل ويتلقى ما ينزل
منه فيسيل منه ماء الكافور ويعقد مثل الشمع وهو عسل ذلك الشجر وبعد وفي
تلك الجزيرة صنف من الوحوش يقال له الكركدن يرعى فيها رعياً مثل ما يرعى
البقر والجاموس في بلادنا ولكن جسم ذلك الوحش أكبر من جسم الجمل ويأكل
العلق وهو دابة عظيمة لها قرن واحد غليظ في وسط رأسها طوله قدر عشرة أذرع
وفيه صورة إنسان وفي تلك الجزيرة شيء من صنف البقر. وقد قال لنا البحريون
المسافرون وأهل السياحة في الجبال والأراضي أن هذا الوحش المسمى بالكركدن
يحمل الفيل الكبيرعلى قرنه ويرعى به في الجزيرة والسواحل ولا يشعر به ويموت
الفيل على قرنه ويسيح دهنه من حر الشمس على رأسه ويدخل في عينيه فيعمى
فيرقد في جانب السواحل فيجيء له طير الريخ فيحمله في مخالبه ويروح به عند
أولاده ويزقهم به وبما على قرنه وقد رأيت في تلك الجزيرة شيئاً كثيراً من
صنف الجاموس ليس له عندنا نظير وفي تلك الوادي شيء كثير من حجر ألماس الذي
حملته معي وخبأته في جيبي وقايضوني عليه ببضائع ومتاع من عندهم وحملوها لي
عهم وأعطوني دراهم ودنانير ولم أزل سائراً معهم وأنا أتفرج على بلاد الناس
وعلى ما خلق الله من واد إلى واد ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري إلى
أن وصلنا إلى مدينة البصرة وأقمنا بها أياماً قلائل ثم جئت إلى مدينة
بغداد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما رجع من غيبته ودخل مدينة بغداد
دار السلام وجاء إلى حارته ودخل داره ومعه من صنف حجر الألماس شيء كثير
ومعه مال ومتاع وبضائع لها صورة وقد اجتمع بأهله وأقاربه ثم تصدق ووهب
وأعطى وهادى جميع أهله وأصحابه وصار يأكل طيباً ويشرب طيباً ويلبس ملبساً
طيباً ويعاشر ويرافق ونسي جميع ما قاساه ولم يزل في عيش هني وصفاء خاطر
وانشراح صدر ولعب وطرب وصار كل من سمع بقدومه يجيء إليه ويسأله عن حال
السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه فيتعجب من شدة ما
قاساه ويهنئه بالسلامة وهذا آخر ما جرى لي وما اتفق لي في السفرة الثانية
ثم قال لهم وفي الغد إن شاء الله تعالى أحكي لكم حال السفرة الثالثة. فلما
فرغ السندباد البحري من حكايته للسندباد البري تعجبوا من ذلك وتشعوا عنده
وأمر للسندباد بمائة مثقال ذهباً فأخذها وتوجه إلى حال سبيله وهو يتعجب مما
قاساه السندباد البحري وشكره ودعا له في بيته ولما أصبح الصباح وأضاء
بنوره ولاح قام السندباد البري كما أمره ودخل إليه وصبح عليه فرحب به وجلس
معه حتى أتاه باقي أصحابه وجماعته فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وانشرحوا
ثم ابتدأ السندباد البحري بالكلام وقال:
الحكاية الثالثة من حكايات السندباد البحري وهي السفرة الثالثة اعلموا
يا إخواني واسمعوا مني حكاية فإنها أعجب من الحكايات المتقدمة قبل تاريخه
والله أعلم بغيبة واحكم أني فيما مضى وتقدم لما جئت من السفرة الثانية وأنا
في غاية البسط والانشراح فرحان بالسلامة وقد كسبت مالاً كثيراً كما حكيت
لكم أمس تاريخه وقد عوض الله علي ما راح مني أقمت بمدينة بغداد مدة من
الزمان وأنا في غاية الحظ والصفاء والبسط والانشراح فاشتاقت نفسي إلى السفر
والفرجة وتشوقت إلى المتجر والكسب والفوائد والنفس أمارة بالسوء فهممت
واشتريت شيئاً كثيراً من البضائع المناسبة لسفر البحر وحزمتها للسفر وسافرت
بها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة وجئت إلى ساحل البحر فرأيت مركباً
عظيماً وفيه تجار وركاب كثيرة أهل خير وناس ملاح طيبون أهل دين ومعروف
وصلاح فنزلت معهم في ذلك المركب وسافرنا على بركة الله تعالى بعونه وتوفيقه
وقد استبشرنا بالخير والسلامة. ولم نزل سائرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة
إلى جزيرة ومن مدينة إلى مدينة وفي كل مكان مررنا عليه نتفرج ونبيع ونشتري
ونحن في غاية الفرح والسرور إلى أن كنا يوماً من الأيام سائرين في وسط
البحر العجاج المتلاطم بالأمواج فإذا بالريس وهو جانب المركب ينظر إلى
نواحي البحر ثم
إنه لطم وجهه وطوى قلوع المركب ورمى مراسيه ونتف لحيته ومزق ثيابه وصاح
صيحة عظيمة فقلنا له يا ريس ما الخبر فقال اعلموا يا ركاب السلامة أن الريح
غلب علينا وعسف بنا في وسط البحر ورمتنا المقادير لسوء بختنا إلى جبل
القرود وما وصل إلى هذا المكان أحد ولم يسلم منه قط وقد أحس قلبي بهلاكنا
أجمعين. فما استتم قول الريس حتى جاءنا القرود وأحاطوا المركب من كل جانب
وهم شيء كثير مثل الجراد المنتشر في المركب وعلى البر فخفنا إن قتلنا منهم
أحداً أو طردناه أن يقتلونا لفرط كثرتهم والكثرة تغلب الشجاعة وبقينا
خائفين منهم أن ينهبوا رزقنا ومتاعنا وهم أقبح الوحوش وعليهم شعور مثل لبد
الأسود ورؤيتهم تفزع ولا يفهم لهم أحد كلاماً ولا خيراً وهم مستوحشون من
الناس صفر العيون وسود الوجوه صغار الخلقة طول كل واحد منهم أربعة أشبار
وقد طلعوا على حبال المرساة وقطعوها بأسنانهم وقطعوا جميع حبال المركب من
كل جانب فمال المركب من الريح ورسى على جبلهم وصار المركب في برهم وقبضوا
على جميع التجار والركاب وطلعوا إلى الجزيرة وأخذوا المركب بجميع ما كان
فيه وراحوا به. فبينما نحن في تلك الجزيرة نأكل من أثمارها وبقولها
وفواكهها ونشرب من الأنهار التي فيها إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك
الجزيرة فقصدناه ومشينا إليه فإذا هو قصر مشيد الأركان عالي الأسوار له باب
بدرفتين مفتوح وهو من خشب الأبانوس فدخلنا باب ذلك القصر فوجدنا له حظيراً
واسعأً مثل الحوش الواسع الكبير وفي دائره أبواب كثيرة وفي صدره مصطبة
عالية كبيرة وفيها أواني طبيخ معلقة على الكوانين وحواليها عظام كثيرة ولم
نر فيها أحد فتعجبنا من ذلك غاية العجب وجلسنا في حضير ذلك القصر. قليلاً
ثم بعد ذلك نمنا ولم نزل نائمين من ضحوة النهار إلى غروب الشمس وإذ بالأرض
قد ارتجت من تحتنا وسمعنا دوياً من الجو وقد نزل علينا من أعلى القصر شخص
عظيم الخلقة في صفة إنسان وهو أسود اللون طويل القامة كأنه نحلة عظيمة وله
عينان كأنهما شعلتان من نار وله أنياب مثل أنياب الخنازير وله فم عظيم
الخلقة مثل البئر وله مشافر مثل مشافر الجمل مرخية على صدره وله أذنان مثل
الحرامين مرخيتان على أكتافه وأظافر يديه مثل مخالب السبع فلما نظرناه على
هذه الحالة غبنا عن وجودنا وقوي خوفنا واشتد فزعنا وصرنا مثل الموتى من شدة
الخوف والجزع والفزع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الأربعون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري ورفقته لما رأوا هذا
الشخص الهائل الصورة وحصل لهم غاية الخوف والفزع فلما نزل على الأرض جلس
قليلاً على المصطبة ثم إنه قام وجاء عندنا ثم قبض على يدي من بين أصحابي
التجار ورفعني بيده عن الأرض وحبسني وقلبني فصرت في يده مثل اللقمة الصغيرة
وصار يحبسني مثل ما يحبس الجزار ذبيحة الغنم فوجدني ضعيفاً من كثرة القهر
هزيلاً من كثرة التعب والسفر وليس في شيء من اللحم فأطلقني من يده وأخذ
واحداً غيري من رفاقي وقلبه كما قلبني وحبسه كما حبسني وأطلقه ولم يزل
يحبسنا ويقلبنا واحداً بعد واحد إلى أن وصل إلى ريس المركب الذي كنا فيه
وكان رجلاً سميناً غليظاً عريض الأكتاف صاحب قوة وشدة فأعجبه وقبض عليه مثل
ما يقبض الجزار على ذبيحته ورماه على الأرض ووضع رجله على رقبته وجاء بسيخ
طويل فأدخله في حلقه حتى خرجه من دبره وأوقد ناراً شديدة وركب عليها ذلك
السيخ المشكوك فيه الريس ولم يزل يقلبه على الجمر حتى استوى لحمه وأطلعه من
النار وحطه أمامه وفسخه كما يفسخ الرجل الفرخة. وصار يقطع لحمه بأظافره
ويأكل منه ولم يزل على هذه الحالة حتى أكل لحمه ونهش عظمه. ولم يبق منه
شيئاً ورمى باقي العظام في جنب القصر. ثم إنه جلس قليلاً وانطرح ونام على
تلك المصطبة وصار يشخر مثل شخير الخروف أو البهيمة المذبوحة ولم يزل نائماً
إلى الصباح ثم قام وخرج إلى حال سبيله. فلما تحققنا بعده تحدثنا مع بعضنا
وبكينا على أرواحنا وقلنا ليتنا غرقنا في البحر وأكلتنا القرود خير من شوي
الإنسان على الجمر والله إن هذا الموت رديء ولكن ما شاء الله كان ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي ثم إننا قمنا وخرجنا إلى الجزيرة لننظر لنا مكان
نختفي فيه أو نهرب وقد هان علينا أن نموت ولا يشوى لحمنا بالنار فلم نجد
مكان نختفي فيه وقد أدركنا المساء فعدنا إلى القصر من شدة خوفنا وجلسنا
قليلاً وإذا بالأرض قد ارتجفت من تحتنا وأقبل ذلك الشخص الأسود وجاء عندنا
وصار يقلبنا واحداً بعد الآخر مثل المرة الأولى ويحبسنا حتى أعجبه واحد.
فقبض عليه وفعل به مثل ما فعل بالريس في أول يوم فشواه وأكله على تلك
المصطبة ولم يزل نائماً في تلك الليلة وهو يشخر مثل الذبيحة فلما طلع
النهار قام وراح إلى حال سبيله وتركنا على جري عادته فاجتمعنا وتحدثنا
وقلنا لبعضنا والله لأن نلقي أنفسنا في البحر ونموت غرقاً
خير من أن نموت حرقاً لأن هذه قتلة شنيعة فقال واحد منا اسمعوا كلامي
أننا نحتال عليه ونرتاح من همه ونريح المسلمين من عدوانه وظلمه. فقلت لهم
اسمعوا يا إخواني إن كان لابد من قتله فإننا نحول هذا الخشب وننقل شيئاً من
هذا الحطب ونعمل لنا فلكاً مثل المركب وبعد ذلك نحتال في قتله وننزل في
الفلك ونروح في البحر إلى أي محل يريده الله. وإننا نقعد في هذا المكان حتى
يمر علينا مركب فننزل فيه وإن لم نقدر على قتله ننزل ونروح في البحر ولو
كنا نغرق نرتاح من شوينا على النار ومن الذبح وإن سلمنا سلمنا وإن غرقنا
متنا شهداء. فقالوا جميعاً والله هذا رأي سديد وفعل رشيد واتفقنا على هذا
الأمر وشرعنا في فعله فنقلنا الأخشاب إلى خارج القصر وصنعنا فلكاً وربطناه
على جانب البحر ونزلنا فيه شيئاً من الزاد وعدنا إلى القصر. فلما كان وقت
المساء إذا بالأرض قد ارتجفت بنا ودخل علينا الأسود وهو كأنه الكلب العقور
ثم قلبنا وحبسنا واحداً بعد واحد ثم أخذ واحداً وفعل به مثل ما فعل بسابقيه
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك
السعيد أن السندباد البحري قال إن الأسود أخذ واحداً منا وفعل به مثل ما
فعل بسابقيه وأكله ونام على المصطبة وصار شخيره مثل الرعد فنهضنا وقمنا
وأخذنا سيخين من حديد من الأسياخ المنصوبة ووضعناهما في النار القوية حتى
احمرا وصارا مثل الجمر وقبضنا عليهما قبضاً شديداً وجئنا بهما إلى ذلك
الأسود وهو نائم يشخر ووضعناهما في عينيه واتكأنا عليهما جميعاً بقوتنا
وعزمنا فأدخلناهما في عينيه وهو نائم فانطمستا وصاح صيحة عظيمة فارتعبت
قلوبنا منه. ثم قام من فوق تلك المصطبة بعزمه وصار يفتش علينا ونحن نهرب
منه يميناً وشمالاً فلم ينظرنا وقد عمي بصره فخفنا منه مخافة شديدة وأيسنا
في تلك الساعة بالهلاك ويأسنا من النجاة فعند ذلك قصد الباب وهو يتحسس وخرج
منه وهو يصيح ونحن في غاية الرعب منه وإذا بالأرض ترتج من تحتنا من شدة
صوته. فلما خرج من القصر وراح إلى حال سبيله وهو يدور علينا ثم إنه رجع
ومعه أنثى أكبر
وأوحش منه خلقة فلما رأيناه والذي معه أفظع حالة منه خفنا غاية الخوف
فلما رأونا أسرعنا ونهضنا ففككنا الفلك الذي صنعناه ونزلنا فيه ودفعناه في
البحر وكان مع كل واحد منهم صخرة عظيمة وصارا يرجماننا بها إلى أن مات
أكثرنا من الرجم وبقي منا ثلاثة أشخاص أنا واثنان وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك
السعيد أن السندباد البحري لما نزل في الفلك هو وأصحابه وصار يرجمهم السود
ورفيقته فمات أكثرهم ولم يبق منهم إلا ثلاثة أشخاص فطلع بهم الفلك إلى
جزيرة قال فمشينا إلى آخر النهار فدخل علينا ونحن على هذه الحالة فنمنا
قليلاً واستيقظنا من نومنا وإذا بثعبان عظيم الخلقة كبير الجثة واسع الجوف
قد أحاط بنا وقصد واحداً فبلعه إلى أكتافه ثم بلع باقيه فسمعنا أضلاعه
تتكسر في بطنه وراح في حال سبيله فتعجبنا من ذلك غاية العجب وحزنا على
رفيقنا وصرنا في غاية الخوف على أنفسنا وقلنا والله هذا أمر عجيب وكل موتة
أشنع من السابقة وكنا فرحنا بسلامتنا من الأسود فما تمت الفرحة ولا حول ولا
قوة إلا بالله والله قد نجونا من الأسود ومن الغرق فكيف تكون نجاتنا من
هذه الآفة المشؤومة ثم إننا قمنا فمشينا في الجزيرة وأكلنا من ثمرها وشربنا
من أنهارها ولم نزل فيها إلى وقت المساء فوجدنا صخرة عظيمة عالية فطلعناها
ونمنا فوقها وقد طلعت أنا على فروعها. فلما دخل الليل وأظلم الوقت جاء
الثعبان وتلفت يميناً وشمالاً ثم إنه قصد تلك الشجرة التي نحن عليها ومشى
حتى وصل إلى رفيقي وبلعه حتى أكتافه والتف به على الشجرة فسمعت عظامه تتكسر
في بطنه ثم بلعه بتمامه وأنا أنظر بعيني ثم إن الثعبان نزل من فوق الشجرة
وراح إلى حال سبيله ولم أزل على تلك الشجرة في تلك الليلة. فلما طلع النهار
وبان النور ونزلت من فوق الشجرة وأنا مثل الميت من كثرة الخوف والفزع
وأردت أن ألقي بنفسي في البحر وأستريح من الدنيا فلم تهن علي روحي لأن
الروح عزيزة فربطت خشبة عريضة على أقدامي بالعرض وربطت واحدة مثلها على
جنبي الشمال ومثلها على جنبي اليمين ومثلها على بطني وربطت واحدة طويلة
عريضة من فوق رأسي بالعرض مثل التي تحت أقدامي وصرت أنا في وسط هذا الخشب
وهو محتاط بي من كل جانب وقد شددت ذلك شداً وثيقاً وألقيت نفسي بالجميع على
الأرض فصرت نائماً بين تلك الأخشاب وهي
محيطة بي كالمقصورة. فلما أمسى الليل أقبل الثعبان على جري عادته ونظر
إلي وقصدني فلم يقدر أن يبلغني وأنا على تلك الحالة والأخشاب حولي من كل
جانب فدار الثعبان حولي فلم يستطع الوصول إلي وأنا أنظر بعيني وقد صرت
كالميت من شدة الخوف والفزع وصار الثعبان يبعد عني ويعود إلي ولم يزل على
هذه الحالة وكلما أراد الوصول إلي ليبتلعني تمنعه تلك الأخشاب المشدودة علي
من كل جانب ولم يزل كذلك من غروب الشمس إلى أن طلع الفجر وبان النور
وأشرقت الش