سرد - قصص و روايات
عنوان الدرس: زواج مصلحة . اضيف بواسطة : ميخائيل بوبوف . بتاريخ: 2006-07-13.
كنت جالساً في بيتي آكل، هذا مايحدث دائماًعندما لا يكون عندي ماأفعله، الطقس حار.
كل شيء في المطبخ كان متوهجاً، وأنا بسروال السباحة، وذراعاي المتعرقتان على الطاولة.
إنه شهر تموز.
أمام عيني علق تقويم : على المنحدر الثلجي اللامع ينزلق متزلج أزرق اللون مثيراً غباراً براقاً. إنه شهر شباط، لقد فتح التقويم هكذا من ذاته. وأنا شاكر له محاولته إعطاء غذاء لتخيلاتي وانتزاعي، ولو للحظات، من الجو الخانق هنا.
لكنني عاجز عن الاستفادة من هذه الهدية، أسدلت رأسي، ورحت اقتطع قطعة "مرتديلا" أخرى لأمضغها بقرف.
أما أن الحياة قد دخلت طريقاً مسدوداً، فقد أدركت هذا منذ حوالي الساعة والنصف فنظرت وأنا لا أعرف ماذا أعمل، نظرت إلى الهاتف متوقعاً، لم يكن باستطاعة أحد الاتصال بي، ولو كان في موسكو إنسان واحد قادر على الاتصال بي لاتصلت به أنا. أشحت بنظري عن الهاتف وهممت باقتطاع قطعة "مرتديلا" أخرى.
رن الجرس . جرس الباب. أنا لا أحب أن يبدأ أي شيء بجرس الباب. فالناس الذين يقرعون جرس الباب هم في أغلبيتهم ذوو صفة رسمية: من قسم الشرطة أو من إدارة البناء.. أو غجر.
اتجهت نحو المدخل والسكين في يدي، متنقلاً على رؤوس أصابع قدمي. نظرت من خلال عدسة ثقب الباب، إنه زائر، يحاول على مايبدو أن يعرف إن كان في البيت أحد، فالتصق من جهته بهذه القطعة الزجاجية الخبيثة، لم يكتسب وجهه ملامحه الصحيحة إلاّ عندما بدأ يبعد كتلته الخرقاء عن الباب. كانت هذه الملامح معروفة لي.
طقطقت بقفل الباب ودعوت الضيف عابساً إلى الدخول، دخل وهو يصفر نافخاً، فلاحظ سكيني الغريب، إلاّ أنه لم يعلق عليه بشيء. كانت تفوح منه رائحة النضارة والنظافة، تلمست بيدي بطني الساخن وتبعته إلى المطبخ. كان الضيف قد بدأ يتصرف وكأنه في بيته- عبأ غلاية القهوة بمهارة، بل بأناقة، لقد كان دائماً يحوز على إعجابي بقدرته على استخدام أية تقنية منزلية بمهارة متميزة.
- أهلاً كومار(1) ووضعت السكين الذي لم تعد له ضرورة على الطاولة- أنت في موسكو منذ زمن طويل؟
هز رأسه وكأنه يقول : منذ زمن غير طويل، جلست على كرسيّ، وظل كوماروف يغلي القهوة، انتابني شعور بأن لديه حديثاً معي، لكنه عبثاً حاول إثارة فضولي لأنني كنت أعرفه معرفة عميقة -عشر سنوات في المدرسة واستجمام مشترك في كل صيف.
لذا، فأنا لست على استعداد لخوض رحلة من التقصي معه، قلت له:
- الطقس حار.
فأجاب :
- لا..
فكرت في خلدي "كيف لا؟" وكررت بصوت مسموع:
- حار.
همهم وهو يلامس برقة رغوة القهوة بالملعقة، ثم التفت إلي بحركة مسرحية مفاجئة:
- اسمع غوس(2) (تحوير منذ أيام المدرسة لاسم كوزما) هبّ لمساعدتي.
- افترقتما؟
- إلى هذا سارت الأمور، إذا كانت المرأة هيستيرية الطباع فالنهاية حتمية.
انظر لقد ضربتني أمس بكعب حذائها على قصبة أنفي، في المطعم، وها أنا ذا هنا.
كانت له قصة حب عاصفة طيارة مع ممثلة متميزة جداً. كانت أكبر منه سناً وكانت حياتها المسرحية معقدة، عدا عن زواجين فاشلين جداً. كومار شاب طويل القامة ذو ست وعشرين سنة وذو وجه يثير منذ لحظة التعارف الأولى إعجاباً وتعاطفاً كليين. عندما أعلمني بعزمه على إغوائها ضحكت بيني وبين نفسي. فقد بدت لي تجاربه المدرسية في أسر قلوب الفتيات مضحكة وغير مجدية في هجومه على هذه القلعة المتفسدة.
وفعلاً صُدّ في بداية الأمر، ولو كنت مكانه في ذلك الوضع لتراجعت قائلاً لنفسي: "لا حاجة لي بما سيكلفني الحصول عليه هذا العناء"، غير أن كوماروف كان صبياً مدللاً، فهو لم يستكن، وظل يحاصر خليلته شهرين كامليين بالغواية والإغراء، وقد تناهت إلي بعض القصص التي وقعت على جبهة النضال هذه لم أستطع تصديق بعضها وبعضها الآخر أضحكني، إلاّ أن الواقع يظل واقعاً: لقد حقق كومار هدفه المنشود. استمرت سعادة العاشقين زمناً يعتبر، حسب مقاييسنا الراهنة، طويلاً - سنة واحدة. والآن يتدمر. عنده كل شيء، بالمناسبة هو لم يعترض أبداً على الرأي القائل بأن هذا الاتحاد ليس طويل العمر، ومع تأييده لي في هذا كان يرى أن المشهد الختامي قريب، ولكن كيف سيكون هذا المشهد- لم تتطابق آراؤنا بهذا الشأن، كان واثقاً بأن ماسيحدث هو دراما، أما أنا فكنت أرى أن ماسيحدث هو مهزلة.
نظر كوماروف إلي بابتسامة حزينة وحكيمة تبدو للنساء غير الناضجات وكأنها ثمرة حياة معقدة غنية، بينما تثير لدى كل الرجال شعوراً بالحرج كالذي تستدعيه فوضى حجرة الخلوة في دورة مياه، لقد بذل قصارى جهده، لكن غلاية القهوة عاقبته في هذه المرة بسبب وضعياته التمثيلية العبثية العصية على التحكم، إذا ساح بكل وقاحة هذا الشراب الذي استهلك الكثير من عنايته على سطح السخان كله.
- خنزير. شتمته وأعطته كأساً من الحليب البارد.
- لقد قررت أن أتزوج.
- تزوج. قلت له ذلك وأنا أنتقي الزاوية التي يجب أن أبدأ منها بتنظيف السخان.
- لم تفهمني. أنا لا أريد الزواج بشكل مجرد. أريد أن أتزوج زواج مصلحة.
- أتعبت من "تلك الحياة"؟
- شيء فظيع. كفى. أريد أن أعيش حياة هادئة مطمئنة ومؤمنّة.
- وأبوك؟
- أبي.. على كل حال هو لم يدعم قصة حبي المسرحية، فاضطررت لأن أؤمن رزقي. النساء الهيستيريات هن، برأيي أغلى النساء، وأنا لا أملك موهبة المتاجرة.
- كنت تترجم أفلاماً.
- نعم كنت أترجم، ولكن هناك مافيا. حتى لو حشرت نفسك فيها فالعبء ثقيل. لا باس ياغوس، ليس هذا مما أقدر عليه.
- ألا تحب أن تعمل؟ -سألته بلا أي تعبير وبلا ضغط.
فرد بحماس:
-لا، لا أحب لا أن أعمل ولا أن أكسب رزقي.
- إذن أنت طفيلي. -صرخت وكأنني حققت اكتشافاً مفاجئاً.
- نعم. - هز رأسه بصدق وصراحة.
كان ذلك لعبة قديمة عندنا، فحسب مزاجي كنت أضمن كلمات دوري كل شيء: من الاستشاطة حتى الولع.
- وماذا تريد مني؟
- المساعدة. ساعدني كي أتزوج زواج مصلحة.
- زواج الحب أحسن.
- لا، الأحسن هو زواج المصلحة، الحب يمضي، بينما الحسابات تبقى.
- ولماذا قررت أنني قد أكون عونك في هذا العمل القذر؟ - كنت أثناء ذلك مستمراً في مسح السخان المتسخ.
- أتذكر ، كانت في صفكم بعض البنات.. إحداهن كانت ابنة واحد من فناني الشعب أو ابنة وزير... وابنة الأكاديمي، الخبيثة، أتذكرها؟!
- إنها متزوجة وصار عندها طفل.
- شكراً لتنبيهك اياي.
- وأنت من جانبك، ألا تبحث ؟
- كيف لا؟ لقد بحثت، كلهن لسن المطلوبات.
- أتريدها جميلة؟!
- يالقلة الذوق. أنا أرى أنه لا يجب وضع شروط ملزمة سلفاً.
وراح حديثنا اللاحق يتحول أكثر وأكثر إلى ثرثرة حول الفارغ والملآن. أنا لا أثق بخطط كوماروف، وربما ليس هناك ماهو أكثر هشاشة وأسرع تبخراً من خططه إلاّ خططي... ولكن، ربما.. أجل، ربما فهمت وبوضوح غير عادي أن هناك حلاً ما، لقد سبق وشاهدت جماعة يمكن بمساعدتهم، بل بمشاركتهم تحقيق مشروع كوماروف، ترددت لبضع ثوان لأسباب هي، بالدرجة الأولى ذات طابع أخلاقي، لكني لم أطل التردد.
- ترافا لغاروف.
- مابه ترافا لغاروف؟ - سألني كوماروف.
- عنده ابنة. كسينيا. كسوشا، على ما أذكر، ثلاث وعشرون سنة.
تخرجت من إحدى كليات الدراسات الفنية.
- اسمع، أهو ذاك، ذاك الذي ... هذا... بابابم، آ؟
- نعم.
- لكنه موسيقي سيء.
- شحّاذ ويشترط.
- أهو غني؟
-البلد كلها تغنّي.
- نعم، نعم ياغوس، أنت على حق، ولكن كيف تبدو هي؟
- أنت لا يعجبك العجب، تارة أبوها غير موهوب، تارة البنت غير جميلة...
- حتى لو كانت مشوهة، -تمتم كومار متفكراً- ستحبني أكثر.
- وهذا ماتحتاج أنت إليه.
- إذن...
- إذن سنبدأ بإعداد خطة العمل.
حاكمنا الأمور بمنطقية، ابنة إنسان معروف على نطاق البلد كلها كالموسيقار (ترافا لغاروف) لا يمكنها إلاّ أن تكون مخلوقاً مدللاً، لقد عرفنا عن طريق ثلاثة أشخاص أن أباها أهداها مثلاً في عيد ميلادها العشرين سيارة. وهكذا، فإن معجبيها، بالتالي، كثيرون، وقد أدركت كسوشا منذ زمن بعيد (حتى لو لم تكن شديدة الذكاء) أن أغلبية معجبيها هم من ذلك النوع السافل الذي يعتبر الحسابات أبقى من الحب. وبالتالي فهي قد تثق بصدق مشاعر إنسان يستطيع أن يستعرض أمامها قدراته المالية الكبيرة. وهنا توقف مسار تفكيرنا الحقير. يجب أن ننتقل من الخطط إلى الواقع، وهذا أمر صعب دائماً، قلّبنا الكثير من الاحتمالات الممكنة ووزنا كل الوقائع الموثوقة إلى هذه الدرجة أو تلك من وقائع سيرة حياة كسوشا محاولين أن نجد فيها مايرشدنا، كان التعب قد بدأ يحل بنا وبدأت عزيمتنا المتوثبة المرحة تخمد وراحت شبكة عنكبوت الضجر تلتف حولها، عندما وجدنا مخرجاً من الطريق المسدود، مخرجاً، كان طافياً على السطح - إنه مهنتها، فهي مختصة بالدراسات الفنية ورسامة بعض الشيء.
إذا كانت مختصة بالدراسات الفنية، فإنها يجب أن تفهم اللوحات الفنية، أعلن كومار ذلك غارقاً في التفكير، أثناء ذلك كان يحدق بلا انقطاع في الجدار، فوق مقعدي، أثار هذا أعصابي وفهمت لماذا، لقد رأيت ببصيرتي، في عقلي الباطن، رأيت في هذه الجملة المتجامعة مع هذه النظرة تجرؤ على الشيء الوحيد ذي القيمة في عائلتنا على لوحة سافرا سوف الصغيرة.
- أتريد أن تهديها لعروسك؟ -سألته بكل تهكم ممكن.
- أهديها؟ نعم، أهديها، ولكن ليس لعروسي، بل لوالدتي، لأمي بمناسبة عيد الملائكة.
رسمت الخطة بلحظات، فضحكنا من تفاصيلها ضحكاً شديداً، بعد عدة دقائق عثرت على هاتف اتحاد الموسيقيين، حيث اتصلت عن طريق قسم الموسيقيين الغنائيين ب(ترافالغاروف) الذي لم يرتب شيء. أخذت نفساً عميقاً ورحت أدّور قرص هاتفي.
- كسينيا مكسيموفنا؟
- أنا مصغية؟
- لي معك حديث. اسم عائلتي لن يوحي لك بشيء، أما اسمي فهو كوزما، أفلا تستطيعين أن تقدمي لي ولصديق لي خدمة مهنية؟ -وراح الكلام ينساب دون تلكؤ أو ارتباك.
- أية خدمة؟
- نريد أن نتحقق من أصالة إحدى اللوحات.
- طريف. قل لي من فضلك، لماذا تلجأ إلي؟ هناك أناس أكثر كفاءة وشهرة. اتصل باتحاد الفنانيين التشكيليين، والشيء الآخر الغريب هو كيف حصلت على هاتفي؟
- لقد أعطوني إياه هناك.
- هناك ؟ أين؟
-في اتحاد الفنانيين التشكليين... في قسم الغرافيك. - قلت هذا والقلق ينتابني: ماذا لو لم يكن رقم هاتفها هناك أبداً؟
- غريب. - قالت كسينيا مكسيموفنا متذكرة. كان صوت مجنونتنا هذه لطيفاً فعدت لأبادرها بالكلام غير متيح الفرصة لتضخم الشكوك.
- كل مافي الأمر أن الوقت هو شهر تموز، والناس الأكثر كفاءة وشهرة مستلقون الآن في مكان ما على الشواطئ الجنوبية أو جالسون في بيوتهم الريفية، نشكر الله إننا استطعنا... الحمد لله أنك في موسكو.
- لكنني لا أشتغل بهذه المسائل.
- الاستشارة ستكون مدفوعة الأجر طبعاً.
- لماذا أنتم...
- وبإمكاننا أن نرسل السيارة لإحضارك في الحال إن شئت.
تخلل الحديث بعض التقلبات والترددات، ولكنها وافقت.
وذهب أحد معارف كومار، الذي استدعي خصيصاً، ذهب إلى كورنيش كاتيلنيتشكايا وأحضر مجنونتنا إلى بيتي في شارع بلوشيخا، أثناء الانتظار قال كومار: "حسن إنك لاتسكن في منطقة اوريخوفا-بوريسوفا". توازعنا وإياه الأدوار بالتفصيل. لم يكن المشهد المسرحي معقداً، ففي نفس اللحظة التي سيتقرر فيها أن سافراسوف المعلق على الجدار هو سافراسوف الحقيقي، ستبرز لدى الخبير حتماً رغبة شديدة بالاستفسار عن سبب الحاجة إلى خدماته، عند ذلك سأقول أنا، أنا بالذات: "سيريوجا يريد أن يقدم لأمه هدية في يوم الملائكة". وبعد ذلك سنشرب القهوة التي سيجهزها كومار بيديه الماهرتين، سنتمازج ونتبادل بعض النكت والأحاديث المرحة، ثم أدعم موقف كومار بشتى الأساليب محاولاً أن أضعه ضمن دائرة من الضوء تناسب مصلحته، بعد ذلك يقوم كومار بمفرده بإيصال الباحثة الفنية إلى بيتها، لأن عندي في البيت أعمالاً لا يجوز تأجيلها. وكل ماعدا ذلك فهو مسائل تقنية. فكرت وأنا أشرب الحليب وأتفرج على صديقي وهو يرسم على وجهه أمام المرآة ماسيلزمه من التعابير، فكرت: "إذا أخذنا بالحسبان طول كومار وابتسامته ووجوده الطويل وسط المجتمع الشفاف، ولا مبدئيته التامة، فإن النجاح سيتحقق بسرعة، كما أعتقد، ودون حاجة لتسلق مواسير المياه.
رن جرس الباب.
وفوراً بدأت التجاوزات لتفاصيل الخطة المرسومة، إذ قفز كومار فوراً إلى حجرة المدخل غير قادر على الصمود في وجه هجمة الفضول. طبعاً، يمكن تفهم وضعه -إنها على الرغم من كل شيء زوجة المستقبل.
كانت كسينيا أنيقة في لباسها، في بدّلتها البيضاء.. كانت طيبة الرائحة، حتى من دون عطر- إنها نضارة الليلك المزهر ومايماثله. وتغير شكل غرفة شقتي الصغيرة.
وراح كومار يشد المبادرة إلى طرفه ماضياً في الخروج على الخطة التي سبق له أن وافق عليها بحماسة شديدة، خروجاً غير مسموح به أبداً، إذ راح يدلها على الطريق إلى اللوحة، وقد أفرغ كل ماعنده عن أمه وعن يوم الملائكة.
أصبح دوري زائداً. سلمنا، نحن المتآمرون، على ايغور صاحب السيارة التي استأجرها كومار على سبيل الصداقة، ثم ذهبنا إلى المطبخ لنحضر القهوة، بدأ كومار كالطير المغرد. وبما أنني أعرف حق المعرفة خبرته الجزئية وغير المكتملة بفن التصوير الزيتي، فقد أحسست برضى شامت، متخيلاً، كيف يمكن أن تبدو لهذه المحترفة محاولاته للتألق ببريق الباحث الفني.
- إلاّ أنه أثبت ذكاء أكثر مما أردت، جاء إلى المطبخ وهمس : "غوس" معلماً إياي بالإشارة أنه عاجز عن التصرف من دوني، عند دخولي إلى الغرفة رأيت المشهد التالي:
كسينيا تقف مطرقة وقد ابتسمت استعداداً للطوارئ، بينما كومار يصوب نحوها نظرة ولهانة وهو يتكلم ويتكلم بحرارة وبشكل مؤثر ومقنع لا عن الفن، بل عن حبه لأمه العجوز.
وفي هذه المرة أيضاً لم أتمكن من النظر إلى كسينيا كما يجب. يبدو أنها كانت سمينة بعض الشيء، أما شكل وجهها البيضوي....
- هذا هو صاحبها. اسمه كوزما، - بادر صديقي بلهجة ملؤها الازدراء تجاهي، أنا الحقير الذي هوى إلى درك بيع مقتنيات الأسرة.
- كسينيا - قالت كسينيا ممادة إلى كف يدها النحيل الناعم.
كلاّ، لم تكن الفتاة سمينة أبداً، واستدارة وجهها كانت مثيرة جداً، أخذ العريس يتململ لو أمكنه لأبقاني في المطبخ.
تحدثنا عن سافراسوف، وقد سرني أن أسمع أن هذه اللوحة هي لسافراسوف "دون أدنى شك". وكان ساراً لي أيضاً أن أحدث كسينيا عن قصة هذه اللوحة المأساوية، كانت هي تصغي بامتنان، وبما أن تاريخ اللوحة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الأسرة فقد رحت أنتقل تدريجياً من التصوير الزيتي إلى الحياة. بدأت الحديث عن أبي وأمي وعندما أصبح حديثنا أشبه باستعراض لألبوم الأسرة انتفض كومار بعصبية.
- إذن أنت تنصحيني بأخذها، كسينيا؟
ابتسمت الفتاة ابتسامة لطيفة وقالت:
- إذا كنت قادراً على دفع...
- لاشيء يغلو من أجل أمي. - قال كومار هذه الجملة المزيفة بنشوة.
هنا دخل ايغور يحمل على صينية أربع فناجين من القهوة. عندما شاهدنا الفناجين اكتشفنا أننا واقفون. جلسنا ورحنا نشرب القهوة باستمتاع، كانت كسينيا تصغي إلى ثرثرتنا مبتسمة للفنجان، ولم يفسد اهتمام ثلاثة رجال، دفعة واحدة، بها، لم يفسد تماسكها، فلم تتدلل أبداً.
لم يدع كومار الحديث يطول. شرب القهوة ووقف بحزم، ثم مدَّ يده إلى السيدة وقال لي جملة طويلة حمقاء، اعلمني بها وبشكل فروسي جذاب أنه سيحضر لي ثمن اللوحة التي اشتراها غداً..
وانصرفوا.
تهاويت على المقعد.
في ذلك اليوم جافتني حتى الشهية للطعام.
في اليوم التالي ذهب كومار مع خطيبته إلى المطعم، ليس مهماً ماذا أكلا أو شربا في المطعم فهصارة الموقف تكمن في كيفية دفع الحساب، لقد أخذ كومار من صديقه الذي كان قد باع سيارته الـ "تويوتا" حافظة نقوده ليملها، وفي هذه الحافظة المحشوة بالنقود وضع كومار ربعية من النقود العائدة له. وقد وصف كومار بتلذذ كبير شلاّل الأوراق الذهبية المنهمرة من الجزنة الجلدية التي انفتحت بشكل خاطئ.
دهشة خادم المطعم.
دهشة كسينيا.
ولم تعد هذه القصة لتثير اهتمامي فيما بعد بل إن كومار، والحق يقال، لم يعد علي حكاياته عن قصة حبه، الأمر مفهوم من الناحية الفلسفية -فباعتباري شاهداً، لا بأس بأن ألطم.
أنا واثق إن في نوايا العريس اللاحقة الكثير الكثير من الزيف والقليل القليل من السخرية والتألق.
دعاني إلى عرسه ولكن ببرود، وأنا لم أذهب بسرور.
رغبت في الابتعاد أكثر وأكثر..
سافرت.
بعد سنة التقينا مرة أخرى في القرم، كنت أجلس في مقهى على الشاطئ أشرب نبيذاً مزاً. كان الوقت مبكراً والمقهى فارغاً تقريباً، والهواء يضرب صدري برفق عبر فتحة قميصي.
كان البحر صاخباً طبعاً.
وأنا، كنت أنظر إلى الأفق.
أنظر وأحاول أن أقنع نفسي بإمكانية حياة جديدة رائعة في المستقبل.
يبدو أنني بالغت في الاستسلام لهذه التخيلات فنبهتني قهقهة كومار. وبصعوبة أدرت رأسي الثملة نحوه، وبصعوبة كبيرة تفحصت عيناي الحزينتان (حسبما يتضح) صديقي والفتاة الواقفة بجانبه.
لم تكن هي كسينيا.
- اجلس. قلت بصوت فيه بحة.
- اجلسي. - أوعز كومار لرفيقته مقرباً الكرسي المعدني الذي أصدر صوت قعقعة وصرير نحو المنضدة البلاستيكية القذرة.
- ماذا؟.. سألني كومار بنشوة مبتسماً لي ابتسامة كلها مودة وصداقة.
فكان جوابي أن قمت بحركة تعني: اسكب إن كنت تريد، وقلت: -
"راتسيتيلي"(3)
سكب لنفسه ولرفيقته وشربا سعيدين بشيء ما غير مفهوم. عرضت عليهما مرة أخرى بالإشارة أن اشربا أيضاً. لم يكن هذا كرماً مني، بل على العكس، إذ كنت أتحسر بعض الشيء على النبيذ المتطاير من أمامي، إلاّ أنني ببساطة لم أجد حديثاً أفاتح به صديقي القديم جداً, لم يثر اهتمامي إلاّ موضوع واحد غير أنه لم يكن ممكناً... أي أنه لا يجوز فتح تحقيق بحضور امرأة عن امرأة أخرى. لقد كان موقفي من كومار موقفاً سلبياً، بل موقف كراهية خفية، لكنني لم أرَ من الممكن وضعه في موقف محرج.
قررت التالي: "دعه يتحدث بنفسه. هو الذي جاء إليَّ ولست أنا الذي ذهبت إليه. خاصة وأنه يحب الكلام. تكفي دفعة واحدة بسيطة ليقص، وهذا يتم بطرح سؤال.
- ما الذي جاء بك إلى هنا؟
- إيه -وابتسم - لقد هربت.
- من أين؟
- من الدار، غوس، من الدار.
- من دار الإصلاحية؟
- من دار العائلية.
اعترفت أنني استأت بعض الشيء من جوابه هذا، فسكبت لنفسي نبيذاً.
- فسرّ.
- ماذا "أفسر"... خرجت وهربت.
- من...
- نعم من كسينيا منها..
وألقيت نظرة حذرة على رفيقته (بالمناسبة، لم يعرفني عليها بوضوح)، لم يكن هذا الحديث ليزعجها أبداً. وتابع كومار حديثه: - ماكدت انتقل إلى بيتهم حتى شعرت بأنني وقعت كما وقعت تلك الدجاجة التي تعرفها أنت جيداً، أما في الحساء أو في طست النتف، لا أستطيع أن أتذكر كيف التسمية الصحيحة.
- أشكال مختلفة لشيء واحد.
- نعم، لكن المسألة ليست هنا، أتعرف، لم يكن ذلك بيتاً بل ورشة.
أبوها ينقر ليل نهار على البيانو -هذا الاسود الشنيع الذي يحتل نصف الغرفة، وكسينيا تضرب أيضاً على الأزرار، لكن آلتها أصغر، كنت أحتمل عندما كانت تقرأ المقالات، ولكن عقدت العزم على كتابة أطروحة... ومع ذلك كان هذا القشة التي قصمت ظهر البعير. -ورفع كومار وسكب في قدحه ماتبقى في الزجاجة.
- ماذا إذن؟
-سأخبرك، دار الحديث بيننا مرة عن الفن، حديث عائلي، نعم، نعم، لا تضحك، ليس هذا من سماتي، لكنه حدث، خلال الحديث أفهمني هذا العجوز الموسيقار (وشح كومار هذه الكلمة بالكثير من الأحاسيس)، أنه يعد نفسه فناناً حقيقياً كبيراً. ويرى أن طنطنته خدمة... وإلى ماهنالك... -وعبَّ من الكأس بشراهة- وكان يعرف من هو في الحقيقة، أنت تعمل عملاً تافهاً، اعمل ولكن اعرف حدودك.
- لا يعرف حدوده؟
- أبداً، قال لي أنه يؤلف سوناتا. سو - نا- تا. هذه الكلمة تجعلني أتجشأ.
وهكذا بإمكانك أن تتصور الكماشة التي وقعت فيها، حموي موسور -دارغوميجسكي(4) وزوجتي ستاسوف(5) في تنورة. إنهما شرذمة جبارة. انفجرت، وقلت له كل ماكان يجب أن يقوله في مثل هذا الموقف شريف لشريف. وصفيت معه حساب هامبورغ.
- وماذا؟
- ماذا وماذا ؟ اضطررت للرحيل. كسينيا وقفت في غير صفي. فقد ثبت أنها تحترم أباها. وهي نفسها التي تقدمت بطلب الطلاق. وأنا الآن طليق مثل هذا الهواء الذي نراقبه الآن.
نهضت بحذر مختبراً إن كانت ساقاي ستحملاني، إنهما تحملاني وبثقة.
- إلى أين تذهب؟
- اجلسا هنا، سأعود قريباً.
بهذه الكلمات توجهت إلى المرحاض المموه بشكل جميل بين الشجيرات، إلاّ أنّه لم يكن هو الهدف المفاجئ لجولتي، من عنده انعطفت نحو اليسار إلى حيث كانت تقف تحت أشجار المانوليا ثلاث غرف للاتصالات الهاتفية بين المدن، لم يكن عند هذه الغرف في هذه الساعة الصباحية أحد، لقد أسعفني الحظ من هذه الناحية على الأقل.
سحبت دفتر هواتفي القديم ورحت أبحث بأصابع مرتجفة عن حرف "ك" ثم أدرت القرص.
الخط مشغول.
طلبت الرقم مرة أخرى. وفي المرة الأخرى - مشغول أيضاً.
عدت إلى الطاولة.
خلال ذلك كان كومار قد تمكن من القضاء على زجاجتين أخريين من هذا المشروب المز، وظلت رحلتي إلى غير المرحاض مستترة.
تابع صديقي حديثه مشتغلاً بفتاحة القوارير.
- هي عموماً امرأة لابأس بها، أنا أقصد كسينيا، لا أنت- وربت على كتف رفيقته -جميلة وذات طبع مسالم إنها كانت تحاول طهي بعض الأشياء من أجلي. كتليت أوحساء بارداً.. شيء مضحك حقاً. إنها جدية تجاه كل الأمور: تجاه العمل وتجاه الزواج.
نعم م م.. - كان فمي مليئاً بالنبيذ لكنني لم أعد أرغب بالشرب أكثر. فاين أذهب بالنبيذ الذي في فمي؟ لن أعيده إلى الكأس طبعاً.
قال صديقي بإخلاص وصدق لم يعهدهما في نفسه:
- أتعلم، ربما نكون قد تصرفنا بشكل غير صحيح إذ ذاك.
كان النبيذ في فمي مثل الماء في مغارة تحت الأرض، لذلك لم أتمكن من السؤال: متى إذ ذاك؟
- إذ ذاك، في البداية، إذ لم تكن لدي أية أفضلية صريحة، وكسينيا اهتمت بكلينا، وربما اهتمت بك أكثر. لكنني فرضت نفسي واستخدمت كل الأساليب وأنت تعرف كفاءتي. لقد قدرت سلوكك، بشرفي قدرته، لقد تصرفت كصديق حقيقي، ولن أنسى لك ذلك أبداً، أنا سأفي هذا الدين. أقسم أنني سأفيه في يوم من الأيام، - أخذ جرعة كبيرة ولكن لماذا التأجيل. الآن مباشرة، خذ لودوك إذا أردت، إنها فتاة جيدة.
وانفجرت "لودوك" ضاحكة ضحكة مرحة لإنسان يفهم النكتة.
ردا على ذلك انحنيت نحو اليسار، أفرغت فمي من النبيذ وأعلمتهما:
- وضعي سيء جداً.
- صحيح ؟ اذهب وافرغ معدتك.
بعد عدة ثوان كنت عند الهاتف من جديد، حيث استغرقت زمناً طويلاً في اختيار الإصبع الذي سأدير به قرصه. كل أصابعي كانت ترتجف.
أدرت القرص. مشغول.
انتقلت إلى جهاز الهاتف الآخر.
مشغول.
جربت كل الأجهزة، كلها كانت صالحة، إلاّ أنها كلها كانت متآمرة علي، كلها كانت تقول شيئاً واحداً: مشغول، مشغول مشغول.
اضطررت للعودة إلى هذا...
سألني شريك وشريكة الزجاجة بصوت واحد:
- كيف.؟
- مازال الحال سيئاً، لكن الأمل موجود..
- بأن تمتلئ الكأس أخيراً، - صرخ كومار وهو يسكب النبيذ فيها.
شربا، لكني رفضت الشراب، وأعلن كومار ماسحاً شاربيه غير الموجودين:
- والآن تكفينا، لكي ننهي القصة التي أضجرتنا جميعاً، تكفينا بضعة كلمات.
- افترقتما من زمن؟
- منذ حوالي ثلاثة أشهر. أو خمسة أشهر تقريباً، ولكن ليس هذا هو الأهم.
- ماهو الأهم إذن؟
- تصور أنها تزوجت.
فهوى رأسي وكأن حلتي ماتزال سيئة.
- ممن تزوجت؟
- لا تعرفه، منذ أيام المدرسة كان يلهث وراءها، شاب مكور الرأس ذو نظارت متفوق. عموماً، فيه كل المواصفات، والمهم أنه لا يحب غيرها، يوجد مثل هؤلاء.
لم أكن أصدق، ولكنه يوجد، لقد كانت تسكن داخله هذه العاطفة الحقيقية، لقد صرح لها أنه سيظل ينتظرها الحياة كلها. حتى بعد أن تزوجت مني كرر لها هذا القول أكثر من مرة. إلاّ أنه، والحق يقال: كان مهذباً، إذ لم يقتحم حياتها بملاطفاته، بل ظل يقف بعيداً، كالفارس، مبتعداً لتقديم خدماته، وهذا يؤثر في النساء، ماتكاد تلتفت صدقة حتى تجده واقفاً قربها. كنت أظن سابقاً أن النساء يحتقرن مثل أولئك، ولكني الآن أفكر بشكل مغاير تقريباً.
-ام م م م
- إنها فكرة صحيحة تماماً، ياغوس، وعندها ظننت أنه ليس لدى أكاديمي المستقبل هذا أي أمل كنت مخطئاً أيضاً، لقد انتظر ونال ذو النظارات هذا سعادته.
امتدت يدي إلى الزجاجة لكنها عادت إلى ركبتي، إذ أحست أن قوتها غير كافية، لاحظت لودوك هذا، فسكبت هي لي بنفسها مبتسمة.
- ليس هذا كل شيء.
- ماذا، هل طلقت ثانية؟
- على العكس.
- مامعنى "على العكس"؟
- أحبته . أفهمت. أحبت ابن صفها كروي الرأس هذا. تزوجته امتناناً كي تجد ماتسند إليه قلبها المحطم باستهتاري الوحش وأنانيتي، وبالنتيجة...
حاولت أن أشرب، لكن النبيذ حاول مرة أخرى أن يعتصم في فمي، غير أني كنت أقوى منه فأجبرته على الرحيل ومتابعة السير.
- بعد شهرين من انطلاق هذا الزواج الأعرج ظهر عندها، عند هذه المخلوقة، إحساس أسري كبير مشرق تجاه هذا الطرح، ناتاشا روستوفا(6). والآن يلتهم ذو النظارات طعامي ويطبع معها متسابقين الأطروحة على أنغام موسيقى أبيها العبقري أليسوا أنذالا؟
قلت بلهجة صارمة:
- لنشرب.
- حتماً..
- وكيف عرفت أنها أحبته؟
- كيف "كيف"؟... حامل في شهرها الأخير.
رفعت الكأس. استجمعت قواي ورفعتها.
- لدي نخب أريد أن أشر... أريد أن أشرب...
وارتفع صخب البحر، فبدا لي وكأنه يقتطع بصخبه قطعاً من جسدي فنطير بعيداً زاعقة بشكل مقرف كالنوارس.
-.... نخب صديقي الوحيد، صديقي الأفضل، فلن يكون لي في الحياة أفضل منه.
شربنا وتعانقنا، وانفجرت أبكي بين ذراعي كومار.
(1) كلمة "كومار" تعني بالروسية البعوضة أو البرغوث، وكنية الضيف هي كوماروف أي "البرغوثي" وهنا ينادي الراوي ضيفه بمصدر كنيته، فعوضاً عن "البرغوثي" يناديه "البرغوث".
(2) غوس تعني بالروسية "الأوزة".
(3) راتسيتيلي - نوع من أنواع النبيذ.
(4) موسور - دراغوميجسكي هو مزج بقصد السخرية بين اسمي الموسيقيين موسورسكي ودراغوميجسكي.
(5) هناك شخصيتان معروفتان باسم ستاسوف -فنان تشكيلي وناقد موسيقي.
(6) ناتاشا روستوفا هي بطلة رواية ليف تولستوي "الحرب والسلم".
نسخة من الدرس من موقع سرد - قصص و روايات
[ltr]POWERED BY: SaphpLesson3.0[/ltr]
عنوان الدرس: زواج مصلحة . اضيف بواسطة : ميخائيل بوبوف . بتاريخ: 2006-07-13.
كنت جالساً في بيتي آكل، هذا مايحدث دائماًعندما لا يكون عندي ماأفعله، الطقس حار.
كل شيء في المطبخ كان متوهجاً، وأنا بسروال السباحة، وذراعاي المتعرقتان على الطاولة.
إنه شهر تموز.
أمام عيني علق تقويم : على المنحدر الثلجي اللامع ينزلق متزلج أزرق اللون مثيراً غباراً براقاً. إنه شهر شباط، لقد فتح التقويم هكذا من ذاته. وأنا شاكر له محاولته إعطاء غذاء لتخيلاتي وانتزاعي، ولو للحظات، من الجو الخانق هنا.
لكنني عاجز عن الاستفادة من هذه الهدية، أسدلت رأسي، ورحت اقتطع قطعة "مرتديلا" أخرى لأمضغها بقرف.
أما أن الحياة قد دخلت طريقاً مسدوداً، فقد أدركت هذا منذ حوالي الساعة والنصف فنظرت وأنا لا أعرف ماذا أعمل، نظرت إلى الهاتف متوقعاً، لم يكن باستطاعة أحد الاتصال بي، ولو كان في موسكو إنسان واحد قادر على الاتصال بي لاتصلت به أنا. أشحت بنظري عن الهاتف وهممت باقتطاع قطعة "مرتديلا" أخرى.
رن الجرس . جرس الباب. أنا لا أحب أن يبدأ أي شيء بجرس الباب. فالناس الذين يقرعون جرس الباب هم في أغلبيتهم ذوو صفة رسمية: من قسم الشرطة أو من إدارة البناء.. أو غجر.
اتجهت نحو المدخل والسكين في يدي، متنقلاً على رؤوس أصابع قدمي. نظرت من خلال عدسة ثقب الباب، إنه زائر، يحاول على مايبدو أن يعرف إن كان في البيت أحد، فالتصق من جهته بهذه القطعة الزجاجية الخبيثة، لم يكتسب وجهه ملامحه الصحيحة إلاّ عندما بدأ يبعد كتلته الخرقاء عن الباب. كانت هذه الملامح معروفة لي.
طقطقت بقفل الباب ودعوت الضيف عابساً إلى الدخول، دخل وهو يصفر نافخاً، فلاحظ سكيني الغريب، إلاّ أنه لم يعلق عليه بشيء. كانت تفوح منه رائحة النضارة والنظافة، تلمست بيدي بطني الساخن وتبعته إلى المطبخ. كان الضيف قد بدأ يتصرف وكأنه في بيته- عبأ غلاية القهوة بمهارة، بل بأناقة، لقد كان دائماً يحوز على إعجابي بقدرته على استخدام أية تقنية منزلية بمهارة متميزة.
- أهلاً كومار(1) ووضعت السكين الذي لم تعد له ضرورة على الطاولة- أنت في موسكو منذ زمن طويل؟
هز رأسه وكأنه يقول : منذ زمن غير طويل، جلست على كرسيّ، وظل كوماروف يغلي القهوة، انتابني شعور بأن لديه حديثاً معي، لكنه عبثاً حاول إثارة فضولي لأنني كنت أعرفه معرفة عميقة -عشر سنوات في المدرسة واستجمام مشترك في كل صيف.
لذا، فأنا لست على استعداد لخوض رحلة من التقصي معه، قلت له:
- الطقس حار.
فأجاب :
- لا..
فكرت في خلدي "كيف لا؟" وكررت بصوت مسموع:
- حار.
همهم وهو يلامس برقة رغوة القهوة بالملعقة، ثم التفت إلي بحركة مسرحية مفاجئة:
- اسمع غوس(2) (تحوير منذ أيام المدرسة لاسم كوزما) هبّ لمساعدتي.
- افترقتما؟
- إلى هذا سارت الأمور، إذا كانت المرأة هيستيرية الطباع فالنهاية حتمية.
انظر لقد ضربتني أمس بكعب حذائها على قصبة أنفي، في المطعم، وها أنا ذا هنا.
كانت له قصة حب عاصفة طيارة مع ممثلة متميزة جداً. كانت أكبر منه سناً وكانت حياتها المسرحية معقدة، عدا عن زواجين فاشلين جداً. كومار شاب طويل القامة ذو ست وعشرين سنة وذو وجه يثير منذ لحظة التعارف الأولى إعجاباً وتعاطفاً كليين. عندما أعلمني بعزمه على إغوائها ضحكت بيني وبين نفسي. فقد بدت لي تجاربه المدرسية في أسر قلوب الفتيات مضحكة وغير مجدية في هجومه على هذه القلعة المتفسدة.
وفعلاً صُدّ في بداية الأمر، ولو كنت مكانه في ذلك الوضع لتراجعت قائلاً لنفسي: "لا حاجة لي بما سيكلفني الحصول عليه هذا العناء"، غير أن كوماروف كان صبياً مدللاً، فهو لم يستكن، وظل يحاصر خليلته شهرين كامليين بالغواية والإغراء، وقد تناهت إلي بعض القصص التي وقعت على جبهة النضال هذه لم أستطع تصديق بعضها وبعضها الآخر أضحكني، إلاّ أن الواقع يظل واقعاً: لقد حقق كومار هدفه المنشود. استمرت سعادة العاشقين زمناً يعتبر، حسب مقاييسنا الراهنة، طويلاً - سنة واحدة. والآن يتدمر. عنده كل شيء، بالمناسبة هو لم يعترض أبداً على الرأي القائل بأن هذا الاتحاد ليس طويل العمر، ومع تأييده لي في هذا كان يرى أن المشهد الختامي قريب، ولكن كيف سيكون هذا المشهد- لم تتطابق آراؤنا بهذا الشأن، كان واثقاً بأن ماسيحدث هو دراما، أما أنا فكنت أرى أن ماسيحدث هو مهزلة.
نظر كوماروف إلي بابتسامة حزينة وحكيمة تبدو للنساء غير الناضجات وكأنها ثمرة حياة معقدة غنية، بينما تثير لدى كل الرجال شعوراً بالحرج كالذي تستدعيه فوضى حجرة الخلوة في دورة مياه، لقد بذل قصارى جهده، لكن غلاية القهوة عاقبته في هذه المرة بسبب وضعياته التمثيلية العبثية العصية على التحكم، إذا ساح بكل وقاحة هذا الشراب الذي استهلك الكثير من عنايته على سطح السخان كله.
- خنزير. شتمته وأعطته كأساً من الحليب البارد.
- لقد قررت أن أتزوج.
- تزوج. قلت له ذلك وأنا أنتقي الزاوية التي يجب أن أبدأ منها بتنظيف السخان.
- لم تفهمني. أنا لا أريد الزواج بشكل مجرد. أريد أن أتزوج زواج مصلحة.
- أتعبت من "تلك الحياة"؟
- شيء فظيع. كفى. أريد أن أعيش حياة هادئة مطمئنة ومؤمنّة.
- وأبوك؟
- أبي.. على كل حال هو لم يدعم قصة حبي المسرحية، فاضطررت لأن أؤمن رزقي. النساء الهيستيريات هن، برأيي أغلى النساء، وأنا لا أملك موهبة المتاجرة.
- كنت تترجم أفلاماً.
- نعم كنت أترجم، ولكن هناك مافيا. حتى لو حشرت نفسك فيها فالعبء ثقيل. لا باس ياغوس، ليس هذا مما أقدر عليه.
- ألا تحب أن تعمل؟ -سألته بلا أي تعبير وبلا ضغط.
فرد بحماس:
-لا، لا أحب لا أن أعمل ولا أن أكسب رزقي.
- إذن أنت طفيلي. -صرخت وكأنني حققت اكتشافاً مفاجئاً.
- نعم. - هز رأسه بصدق وصراحة.
كان ذلك لعبة قديمة عندنا، فحسب مزاجي كنت أضمن كلمات دوري كل شيء: من الاستشاطة حتى الولع.
- وماذا تريد مني؟
- المساعدة. ساعدني كي أتزوج زواج مصلحة.
- زواج الحب أحسن.
- لا، الأحسن هو زواج المصلحة، الحب يمضي، بينما الحسابات تبقى.
- ولماذا قررت أنني قد أكون عونك في هذا العمل القذر؟ - كنت أثناء ذلك مستمراً في مسح السخان المتسخ.
- أتذكر ، كانت في صفكم بعض البنات.. إحداهن كانت ابنة واحد من فناني الشعب أو ابنة وزير... وابنة الأكاديمي، الخبيثة، أتذكرها؟!
- إنها متزوجة وصار عندها طفل.
- شكراً لتنبيهك اياي.
- وأنت من جانبك، ألا تبحث ؟
- كيف لا؟ لقد بحثت، كلهن لسن المطلوبات.
- أتريدها جميلة؟!
- يالقلة الذوق. أنا أرى أنه لا يجب وضع شروط ملزمة سلفاً.
وراح حديثنا اللاحق يتحول أكثر وأكثر إلى ثرثرة حول الفارغ والملآن. أنا لا أثق بخطط كوماروف، وربما ليس هناك ماهو أكثر هشاشة وأسرع تبخراً من خططه إلاّ خططي... ولكن، ربما.. أجل، ربما فهمت وبوضوح غير عادي أن هناك حلاً ما، لقد سبق وشاهدت جماعة يمكن بمساعدتهم، بل بمشاركتهم تحقيق مشروع كوماروف، ترددت لبضع ثوان لأسباب هي، بالدرجة الأولى ذات طابع أخلاقي، لكني لم أطل التردد.
- ترافا لغاروف.
- مابه ترافا لغاروف؟ - سألني كوماروف.
- عنده ابنة. كسينيا. كسوشا، على ما أذكر، ثلاث وعشرون سنة.
تخرجت من إحدى كليات الدراسات الفنية.
- اسمع، أهو ذاك، ذاك الذي ... هذا... بابابم، آ؟
- نعم.
- لكنه موسيقي سيء.
- شحّاذ ويشترط.
- أهو غني؟
-البلد كلها تغنّي.
- نعم، نعم ياغوس، أنت على حق، ولكن كيف تبدو هي؟
- أنت لا يعجبك العجب، تارة أبوها غير موهوب، تارة البنت غير جميلة...
- حتى لو كانت مشوهة، -تمتم كومار متفكراً- ستحبني أكثر.
- وهذا ماتحتاج أنت إليه.
- إذن...
- إذن سنبدأ بإعداد خطة العمل.
حاكمنا الأمور بمنطقية، ابنة إنسان معروف على نطاق البلد كلها كالموسيقار (ترافا لغاروف) لا يمكنها إلاّ أن تكون مخلوقاً مدللاً، لقد عرفنا عن طريق ثلاثة أشخاص أن أباها أهداها مثلاً في عيد ميلادها العشرين سيارة. وهكذا، فإن معجبيها، بالتالي، كثيرون، وقد أدركت كسوشا منذ زمن بعيد (حتى لو لم تكن شديدة الذكاء) أن أغلبية معجبيها هم من ذلك النوع السافل الذي يعتبر الحسابات أبقى من الحب. وبالتالي فهي قد تثق بصدق مشاعر إنسان يستطيع أن يستعرض أمامها قدراته المالية الكبيرة. وهنا توقف مسار تفكيرنا الحقير. يجب أن ننتقل من الخطط إلى الواقع، وهذا أمر صعب دائماً، قلّبنا الكثير من الاحتمالات الممكنة ووزنا كل الوقائع الموثوقة إلى هذه الدرجة أو تلك من وقائع سيرة حياة كسوشا محاولين أن نجد فيها مايرشدنا، كان التعب قد بدأ يحل بنا وبدأت عزيمتنا المتوثبة المرحة تخمد وراحت شبكة عنكبوت الضجر تلتف حولها، عندما وجدنا مخرجاً من الطريق المسدود، مخرجاً، كان طافياً على السطح - إنه مهنتها، فهي مختصة بالدراسات الفنية ورسامة بعض الشيء.
إذا كانت مختصة بالدراسات الفنية، فإنها يجب أن تفهم اللوحات الفنية، أعلن كومار ذلك غارقاً في التفكير، أثناء ذلك كان يحدق بلا انقطاع في الجدار، فوق مقعدي، أثار هذا أعصابي وفهمت لماذا، لقد رأيت ببصيرتي، في عقلي الباطن، رأيت في هذه الجملة المتجامعة مع هذه النظرة تجرؤ على الشيء الوحيد ذي القيمة في عائلتنا على لوحة سافرا سوف الصغيرة.
- أتريد أن تهديها لعروسك؟ -سألته بكل تهكم ممكن.
- أهديها؟ نعم، أهديها، ولكن ليس لعروسي، بل لوالدتي، لأمي بمناسبة عيد الملائكة.
رسمت الخطة بلحظات، فضحكنا من تفاصيلها ضحكاً شديداً، بعد عدة دقائق عثرت على هاتف اتحاد الموسيقيين، حيث اتصلت عن طريق قسم الموسيقيين الغنائيين ب(ترافالغاروف) الذي لم يرتب شيء. أخذت نفساً عميقاً ورحت أدّور قرص هاتفي.
- كسينيا مكسيموفنا؟
- أنا مصغية؟
- لي معك حديث. اسم عائلتي لن يوحي لك بشيء، أما اسمي فهو كوزما، أفلا تستطيعين أن تقدمي لي ولصديق لي خدمة مهنية؟ -وراح الكلام ينساب دون تلكؤ أو ارتباك.
- أية خدمة؟
- نريد أن نتحقق من أصالة إحدى اللوحات.
- طريف. قل لي من فضلك، لماذا تلجأ إلي؟ هناك أناس أكثر كفاءة وشهرة. اتصل باتحاد الفنانيين التشكيليين، والشيء الآخر الغريب هو كيف حصلت على هاتفي؟
- لقد أعطوني إياه هناك.
- هناك ؟ أين؟
-في اتحاد الفنانيين التشكليين... في قسم الغرافيك. - قلت هذا والقلق ينتابني: ماذا لو لم يكن رقم هاتفها هناك أبداً؟
- غريب. - قالت كسينيا مكسيموفنا متذكرة. كان صوت مجنونتنا هذه لطيفاً فعدت لأبادرها بالكلام غير متيح الفرصة لتضخم الشكوك.
- كل مافي الأمر أن الوقت هو شهر تموز، والناس الأكثر كفاءة وشهرة مستلقون الآن في مكان ما على الشواطئ الجنوبية أو جالسون في بيوتهم الريفية، نشكر الله إننا استطعنا... الحمد لله أنك في موسكو.
- لكنني لا أشتغل بهذه المسائل.
- الاستشارة ستكون مدفوعة الأجر طبعاً.
- لماذا أنتم...
- وبإمكاننا أن نرسل السيارة لإحضارك في الحال إن شئت.
تخلل الحديث بعض التقلبات والترددات، ولكنها وافقت.
وذهب أحد معارف كومار، الذي استدعي خصيصاً، ذهب إلى كورنيش كاتيلنيتشكايا وأحضر مجنونتنا إلى بيتي في شارع بلوشيخا، أثناء الانتظار قال كومار: "حسن إنك لاتسكن في منطقة اوريخوفا-بوريسوفا". توازعنا وإياه الأدوار بالتفصيل. لم يكن المشهد المسرحي معقداً، ففي نفس اللحظة التي سيتقرر فيها أن سافراسوف المعلق على الجدار هو سافراسوف الحقيقي، ستبرز لدى الخبير حتماً رغبة شديدة بالاستفسار عن سبب الحاجة إلى خدماته، عند ذلك سأقول أنا، أنا بالذات: "سيريوجا يريد أن يقدم لأمه هدية في يوم الملائكة". وبعد ذلك سنشرب القهوة التي سيجهزها كومار بيديه الماهرتين، سنتمازج ونتبادل بعض النكت والأحاديث المرحة، ثم أدعم موقف كومار بشتى الأساليب محاولاً أن أضعه ضمن دائرة من الضوء تناسب مصلحته، بعد ذلك يقوم كومار بمفرده بإيصال الباحثة الفنية إلى بيتها، لأن عندي في البيت أعمالاً لا يجوز تأجيلها. وكل ماعدا ذلك فهو مسائل تقنية. فكرت وأنا أشرب الحليب وأتفرج على صديقي وهو يرسم على وجهه أمام المرآة ماسيلزمه من التعابير، فكرت: "إذا أخذنا بالحسبان طول كومار وابتسامته ووجوده الطويل وسط المجتمع الشفاف، ولا مبدئيته التامة، فإن النجاح سيتحقق بسرعة، كما أعتقد، ودون حاجة لتسلق مواسير المياه.
رن جرس الباب.
وفوراً بدأت التجاوزات لتفاصيل الخطة المرسومة، إذ قفز كومار فوراً إلى حجرة المدخل غير قادر على الصمود في وجه هجمة الفضول. طبعاً، يمكن تفهم وضعه -إنها على الرغم من كل شيء زوجة المستقبل.
كانت كسينيا أنيقة في لباسها، في بدّلتها البيضاء.. كانت طيبة الرائحة، حتى من دون عطر- إنها نضارة الليلك المزهر ومايماثله. وتغير شكل غرفة شقتي الصغيرة.
وراح كومار يشد المبادرة إلى طرفه ماضياً في الخروج على الخطة التي سبق له أن وافق عليها بحماسة شديدة، خروجاً غير مسموح به أبداً، إذ راح يدلها على الطريق إلى اللوحة، وقد أفرغ كل ماعنده عن أمه وعن يوم الملائكة.
أصبح دوري زائداً. سلمنا، نحن المتآمرون، على ايغور صاحب السيارة التي استأجرها كومار على سبيل الصداقة، ثم ذهبنا إلى المطبخ لنحضر القهوة، بدأ كومار كالطير المغرد. وبما أنني أعرف حق المعرفة خبرته الجزئية وغير المكتملة بفن التصوير الزيتي، فقد أحسست برضى شامت، متخيلاً، كيف يمكن أن تبدو لهذه المحترفة محاولاته للتألق ببريق الباحث الفني.
- إلاّ أنه أثبت ذكاء أكثر مما أردت، جاء إلى المطبخ وهمس : "غوس" معلماً إياي بالإشارة أنه عاجز عن التصرف من دوني، عند دخولي إلى الغرفة رأيت المشهد التالي:
كسينيا تقف مطرقة وقد ابتسمت استعداداً للطوارئ، بينما كومار يصوب نحوها نظرة ولهانة وهو يتكلم ويتكلم بحرارة وبشكل مؤثر ومقنع لا عن الفن، بل عن حبه لأمه العجوز.
وفي هذه المرة أيضاً لم أتمكن من النظر إلى كسينيا كما يجب. يبدو أنها كانت سمينة بعض الشيء، أما شكل وجهها البيضوي....
- هذا هو صاحبها. اسمه كوزما، - بادر صديقي بلهجة ملؤها الازدراء تجاهي، أنا الحقير الذي هوى إلى درك بيع مقتنيات الأسرة.
- كسينيا - قالت كسينيا ممادة إلى كف يدها النحيل الناعم.
كلاّ، لم تكن الفتاة سمينة أبداً، واستدارة وجهها كانت مثيرة جداً، أخذ العريس يتململ لو أمكنه لأبقاني في المطبخ.
تحدثنا عن سافراسوف، وقد سرني أن أسمع أن هذه اللوحة هي لسافراسوف "دون أدنى شك". وكان ساراً لي أيضاً أن أحدث كسينيا عن قصة هذه اللوحة المأساوية، كانت هي تصغي بامتنان، وبما أن تاريخ اللوحة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الأسرة فقد رحت أنتقل تدريجياً من التصوير الزيتي إلى الحياة. بدأت الحديث عن أبي وأمي وعندما أصبح حديثنا أشبه باستعراض لألبوم الأسرة انتفض كومار بعصبية.
- إذن أنت تنصحيني بأخذها، كسينيا؟
ابتسمت الفتاة ابتسامة لطيفة وقالت:
- إذا كنت قادراً على دفع...
- لاشيء يغلو من أجل أمي. - قال كومار هذه الجملة المزيفة بنشوة.
هنا دخل ايغور يحمل على صينية أربع فناجين من القهوة. عندما شاهدنا الفناجين اكتشفنا أننا واقفون. جلسنا ورحنا نشرب القهوة باستمتاع، كانت كسينيا تصغي إلى ثرثرتنا مبتسمة للفنجان، ولم يفسد اهتمام ثلاثة رجال، دفعة واحدة، بها، لم يفسد تماسكها، فلم تتدلل أبداً.
لم يدع كومار الحديث يطول. شرب القهوة ووقف بحزم، ثم مدَّ يده إلى السيدة وقال لي جملة طويلة حمقاء، اعلمني بها وبشكل فروسي جذاب أنه سيحضر لي ثمن اللوحة التي اشتراها غداً..
وانصرفوا.
تهاويت على المقعد.
في ذلك اليوم جافتني حتى الشهية للطعام.
في اليوم التالي ذهب كومار مع خطيبته إلى المطعم، ليس مهماً ماذا أكلا أو شربا في المطعم فهصارة الموقف تكمن في كيفية دفع الحساب، لقد أخذ كومار من صديقه الذي كان قد باع سيارته الـ "تويوتا" حافظة نقوده ليملها، وفي هذه الحافظة المحشوة بالنقود وضع كومار ربعية من النقود العائدة له. وقد وصف كومار بتلذذ كبير شلاّل الأوراق الذهبية المنهمرة من الجزنة الجلدية التي انفتحت بشكل خاطئ.
دهشة خادم المطعم.
دهشة كسينيا.
ولم تعد هذه القصة لتثير اهتمامي فيما بعد بل إن كومار، والحق يقال، لم يعد علي حكاياته عن قصة حبه، الأمر مفهوم من الناحية الفلسفية -فباعتباري شاهداً، لا بأس بأن ألطم.
أنا واثق إن في نوايا العريس اللاحقة الكثير الكثير من الزيف والقليل القليل من السخرية والتألق.
دعاني إلى عرسه ولكن ببرود، وأنا لم أذهب بسرور.
رغبت في الابتعاد أكثر وأكثر..
سافرت.
بعد سنة التقينا مرة أخرى في القرم، كنت أجلس في مقهى على الشاطئ أشرب نبيذاً مزاً. كان الوقت مبكراً والمقهى فارغاً تقريباً، والهواء يضرب صدري برفق عبر فتحة قميصي.
كان البحر صاخباً طبعاً.
وأنا، كنت أنظر إلى الأفق.
أنظر وأحاول أن أقنع نفسي بإمكانية حياة جديدة رائعة في المستقبل.
يبدو أنني بالغت في الاستسلام لهذه التخيلات فنبهتني قهقهة كومار. وبصعوبة أدرت رأسي الثملة نحوه، وبصعوبة كبيرة تفحصت عيناي الحزينتان (حسبما يتضح) صديقي والفتاة الواقفة بجانبه.
لم تكن هي كسينيا.
- اجلس. قلت بصوت فيه بحة.
- اجلسي. - أوعز كومار لرفيقته مقرباً الكرسي المعدني الذي أصدر صوت قعقعة وصرير نحو المنضدة البلاستيكية القذرة.
- ماذا؟.. سألني كومار بنشوة مبتسماً لي ابتسامة كلها مودة وصداقة.
فكان جوابي أن قمت بحركة تعني: اسكب إن كنت تريد، وقلت: -
"راتسيتيلي"(3)
سكب لنفسه ولرفيقته وشربا سعيدين بشيء ما غير مفهوم. عرضت عليهما مرة أخرى بالإشارة أن اشربا أيضاً. لم يكن هذا كرماً مني، بل على العكس، إذ كنت أتحسر بعض الشيء على النبيذ المتطاير من أمامي، إلاّ أنني ببساطة لم أجد حديثاً أفاتح به صديقي القديم جداً, لم يثر اهتمامي إلاّ موضوع واحد غير أنه لم يكن ممكناً... أي أنه لا يجوز فتح تحقيق بحضور امرأة عن امرأة أخرى. لقد كان موقفي من كومار موقفاً سلبياً، بل موقف كراهية خفية، لكنني لم أرَ من الممكن وضعه في موقف محرج.
قررت التالي: "دعه يتحدث بنفسه. هو الذي جاء إليَّ ولست أنا الذي ذهبت إليه. خاصة وأنه يحب الكلام. تكفي دفعة واحدة بسيطة ليقص، وهذا يتم بطرح سؤال.
- ما الذي جاء بك إلى هنا؟
- إيه -وابتسم - لقد هربت.
- من أين؟
- من الدار، غوس، من الدار.
- من دار الإصلاحية؟
- من دار العائلية.
اعترفت أنني استأت بعض الشيء من جوابه هذا، فسكبت لنفسي نبيذاً.
- فسرّ.
- ماذا "أفسر"... خرجت وهربت.
- من...
- نعم من كسينيا منها..
وألقيت نظرة حذرة على رفيقته (بالمناسبة، لم يعرفني عليها بوضوح)، لم يكن هذا الحديث ليزعجها أبداً. وتابع كومار حديثه: - ماكدت انتقل إلى بيتهم حتى شعرت بأنني وقعت كما وقعت تلك الدجاجة التي تعرفها أنت جيداً، أما في الحساء أو في طست النتف، لا أستطيع أن أتذكر كيف التسمية الصحيحة.
- أشكال مختلفة لشيء واحد.
- نعم، لكن المسألة ليست هنا، أتعرف، لم يكن ذلك بيتاً بل ورشة.
أبوها ينقر ليل نهار على البيانو -هذا الاسود الشنيع الذي يحتل نصف الغرفة، وكسينيا تضرب أيضاً على الأزرار، لكن آلتها أصغر، كنت أحتمل عندما كانت تقرأ المقالات، ولكن عقدت العزم على كتابة أطروحة... ومع ذلك كان هذا القشة التي قصمت ظهر البعير. -ورفع كومار وسكب في قدحه ماتبقى في الزجاجة.
- ماذا إذن؟
-سأخبرك، دار الحديث بيننا مرة عن الفن، حديث عائلي، نعم، نعم، لا تضحك، ليس هذا من سماتي، لكنه حدث، خلال الحديث أفهمني هذا العجوز الموسيقار (وشح كومار هذه الكلمة بالكثير من الأحاسيس)، أنه يعد نفسه فناناً حقيقياً كبيراً. ويرى أن طنطنته خدمة... وإلى ماهنالك... -وعبَّ من الكأس بشراهة- وكان يعرف من هو في الحقيقة، أنت تعمل عملاً تافهاً، اعمل ولكن اعرف حدودك.
- لا يعرف حدوده؟
- أبداً، قال لي أنه يؤلف سوناتا. سو - نا- تا. هذه الكلمة تجعلني أتجشأ.
وهكذا بإمكانك أن تتصور الكماشة التي وقعت فيها، حموي موسور -دارغوميجسكي(4) وزوجتي ستاسوف(5) في تنورة. إنهما شرذمة جبارة. انفجرت، وقلت له كل ماكان يجب أن يقوله في مثل هذا الموقف شريف لشريف. وصفيت معه حساب هامبورغ.
- وماذا؟
- ماذا وماذا ؟ اضطررت للرحيل. كسينيا وقفت في غير صفي. فقد ثبت أنها تحترم أباها. وهي نفسها التي تقدمت بطلب الطلاق. وأنا الآن طليق مثل هذا الهواء الذي نراقبه الآن.
نهضت بحذر مختبراً إن كانت ساقاي ستحملاني، إنهما تحملاني وبثقة.
- إلى أين تذهب؟
- اجلسا هنا، سأعود قريباً.
بهذه الكلمات توجهت إلى المرحاض المموه بشكل جميل بين الشجيرات، إلاّ أنّه لم يكن هو الهدف المفاجئ لجولتي، من عنده انعطفت نحو اليسار إلى حيث كانت تقف تحت أشجار المانوليا ثلاث غرف للاتصالات الهاتفية بين المدن، لم يكن عند هذه الغرف في هذه الساعة الصباحية أحد، لقد أسعفني الحظ من هذه الناحية على الأقل.
سحبت دفتر هواتفي القديم ورحت أبحث بأصابع مرتجفة عن حرف "ك" ثم أدرت القرص.
الخط مشغول.
طلبت الرقم مرة أخرى. وفي المرة الأخرى - مشغول أيضاً.
عدت إلى الطاولة.
خلال ذلك كان كومار قد تمكن من القضاء على زجاجتين أخريين من هذا المشروب المز، وظلت رحلتي إلى غير المرحاض مستترة.
تابع صديقي حديثه مشتغلاً بفتاحة القوارير.
- هي عموماً امرأة لابأس بها، أنا أقصد كسينيا، لا أنت- وربت على كتف رفيقته -جميلة وذات طبع مسالم إنها كانت تحاول طهي بعض الأشياء من أجلي. كتليت أوحساء بارداً.. شيء مضحك حقاً. إنها جدية تجاه كل الأمور: تجاه العمل وتجاه الزواج.
نعم م م.. - كان فمي مليئاً بالنبيذ لكنني لم أعد أرغب بالشرب أكثر. فاين أذهب بالنبيذ الذي في فمي؟ لن أعيده إلى الكأس طبعاً.
قال صديقي بإخلاص وصدق لم يعهدهما في نفسه:
- أتعلم، ربما نكون قد تصرفنا بشكل غير صحيح إذ ذاك.
كان النبيذ في فمي مثل الماء في مغارة تحت الأرض، لذلك لم أتمكن من السؤال: متى إذ ذاك؟
- إذ ذاك، في البداية، إذ لم تكن لدي أية أفضلية صريحة، وكسينيا اهتمت بكلينا، وربما اهتمت بك أكثر. لكنني فرضت نفسي واستخدمت كل الأساليب وأنت تعرف كفاءتي. لقد قدرت سلوكك، بشرفي قدرته، لقد تصرفت كصديق حقيقي، ولن أنسى لك ذلك أبداً، أنا سأفي هذا الدين. أقسم أنني سأفيه في يوم من الأيام، - أخذ جرعة كبيرة ولكن لماذا التأجيل. الآن مباشرة، خذ لودوك إذا أردت، إنها فتاة جيدة.
وانفجرت "لودوك" ضاحكة ضحكة مرحة لإنسان يفهم النكتة.
ردا على ذلك انحنيت نحو اليسار، أفرغت فمي من النبيذ وأعلمتهما:
- وضعي سيء جداً.
- صحيح ؟ اذهب وافرغ معدتك.
بعد عدة ثوان كنت عند الهاتف من جديد، حيث استغرقت زمناً طويلاً في اختيار الإصبع الذي سأدير به قرصه. كل أصابعي كانت ترتجف.
أدرت القرص. مشغول.
انتقلت إلى جهاز الهاتف الآخر.
مشغول.
جربت كل الأجهزة، كلها كانت صالحة، إلاّ أنها كلها كانت متآمرة علي، كلها كانت تقول شيئاً واحداً: مشغول، مشغول مشغول.
اضطررت للعودة إلى هذا...
سألني شريك وشريكة الزجاجة بصوت واحد:
- كيف.؟
- مازال الحال سيئاً، لكن الأمل موجود..
- بأن تمتلئ الكأس أخيراً، - صرخ كومار وهو يسكب النبيذ فيها.
شربا، لكني رفضت الشراب، وأعلن كومار ماسحاً شاربيه غير الموجودين:
- والآن تكفينا، لكي ننهي القصة التي أضجرتنا جميعاً، تكفينا بضعة كلمات.
- افترقتما من زمن؟
- منذ حوالي ثلاثة أشهر. أو خمسة أشهر تقريباً، ولكن ليس هذا هو الأهم.
- ماهو الأهم إذن؟
- تصور أنها تزوجت.
فهوى رأسي وكأن حلتي ماتزال سيئة.
- ممن تزوجت؟
- لا تعرفه، منذ أيام المدرسة كان يلهث وراءها، شاب مكور الرأس ذو نظارت متفوق. عموماً، فيه كل المواصفات، والمهم أنه لا يحب غيرها، يوجد مثل هؤلاء.
لم أكن أصدق، ولكنه يوجد، لقد كانت تسكن داخله هذه العاطفة الحقيقية، لقد صرح لها أنه سيظل ينتظرها الحياة كلها. حتى بعد أن تزوجت مني كرر لها هذا القول أكثر من مرة. إلاّ أنه، والحق يقال: كان مهذباً، إذ لم يقتحم حياتها بملاطفاته، بل ظل يقف بعيداً، كالفارس، مبتعداً لتقديم خدماته، وهذا يؤثر في النساء، ماتكاد تلتفت صدقة حتى تجده واقفاً قربها. كنت أظن سابقاً أن النساء يحتقرن مثل أولئك، ولكني الآن أفكر بشكل مغاير تقريباً.
-ام م م م
- إنها فكرة صحيحة تماماً، ياغوس، وعندها ظننت أنه ليس لدى أكاديمي المستقبل هذا أي أمل كنت مخطئاً أيضاً، لقد انتظر ونال ذو النظارات هذا سعادته.
امتدت يدي إلى الزجاجة لكنها عادت إلى ركبتي، إذ أحست أن قوتها غير كافية، لاحظت لودوك هذا، فسكبت هي لي بنفسها مبتسمة.
- ليس هذا كل شيء.
- ماذا، هل طلقت ثانية؟
- على العكس.
- مامعنى "على العكس"؟
- أحبته . أفهمت. أحبت ابن صفها كروي الرأس هذا. تزوجته امتناناً كي تجد ماتسند إليه قلبها المحطم باستهتاري الوحش وأنانيتي، وبالنتيجة...
حاولت أن أشرب، لكن النبيذ حاول مرة أخرى أن يعتصم في فمي، غير أني كنت أقوى منه فأجبرته على الرحيل ومتابعة السير.
- بعد شهرين من انطلاق هذا الزواج الأعرج ظهر عندها، عند هذه المخلوقة، إحساس أسري كبير مشرق تجاه هذا الطرح، ناتاشا روستوفا(6). والآن يلتهم ذو النظارات طعامي ويطبع معها متسابقين الأطروحة على أنغام موسيقى أبيها العبقري أليسوا أنذالا؟
قلت بلهجة صارمة:
- لنشرب.
- حتماً..
- وكيف عرفت أنها أحبته؟
- كيف "كيف"؟... حامل في شهرها الأخير.
رفعت الكأس. استجمعت قواي ورفعتها.
- لدي نخب أريد أن أشر... أريد أن أشرب...
وارتفع صخب البحر، فبدا لي وكأنه يقتطع بصخبه قطعاً من جسدي فنطير بعيداً زاعقة بشكل مقرف كالنوارس.
-.... نخب صديقي الوحيد، صديقي الأفضل، فلن يكون لي في الحياة أفضل منه.
شربنا وتعانقنا، وانفجرت أبكي بين ذراعي كومار.
(1) كلمة "كومار" تعني بالروسية البعوضة أو البرغوث، وكنية الضيف هي كوماروف أي "البرغوثي" وهنا ينادي الراوي ضيفه بمصدر كنيته، فعوضاً عن "البرغوثي" يناديه "البرغوث".
(2) غوس تعني بالروسية "الأوزة".
(3) راتسيتيلي - نوع من أنواع النبيذ.
(4) موسور - دراغوميجسكي هو مزج بقصد السخرية بين اسمي الموسيقيين موسورسكي ودراغوميجسكي.
(5) هناك شخصيتان معروفتان باسم ستاسوف -فنان تشكيلي وناقد موسيقي.
(6) ناتاشا روستوفا هي بطلة رواية ليف تولستوي "الحرب والسلم".
[ltr]POWERED BY: SaphpLesson3.0[/ltr]