سس الحضارة في القرآن الكريم
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ
أُوتُواوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *
وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْيَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ*
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْأَحَداً أَبَداً وَإِن
قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
* لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا
لاَيَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ
لاَ يُنصَرُونَ)(الحشر/12-9)
في هذه الآيات الكريمة صورتان متقابلتان
ومتناقضتان عن الإيمان والنفاق، ففي حين تشعّ صورة الإيمان في حدثتأريخي
هام هو إيثار الأنصار للمهاجرين على أنفسهم بكلّ ما يملكون، وخروجهم من
شحّ ذواتهم إلى رحاب القيموالمبادئ، تتجلى الصورة الثانية في حالة
النفاق، والغلّ، والكذب، والدجل، التي كانت قائمة بين الكفّار من أهل
الكتابوالمشركين أو المنافقين الذين وعدوهم بالنصرة ثم خذلوهم، وخانوهم.
إن في هاتين الواقعتين التاريخيتين؛ واقعة إيثار الأنصار وحادثة دجل المنافقين وكذبهم على أهل الكتاب من اليهود،ألفَ عبرة وعبرة لنا.
وفي
الواقع؛ فإن الآيات القرآنية تحدثنا عن قضية معينة، ولكن من خلال أفق أوسع
بحيث إننا لو استندنا إلى آية قرآنيةواحدة لاستطعنا من خلال منظارها أن
نرى العالم كله. فعلى الرغم من أن الآية الواحدة تبين لنا حقيقة خاصة إلا
أنهاتضمنت أيماءً وإشارة إلى سائر الحقائق الكونية، وهذا من معاجز القرآن
الكريم.
والآيات التي أوردناها في مقدّمة هذا البحث يمكننا أن نستوحي
منها القواعد التي لابد أن ننطلق منها لبناء صرحالحضارة الإسلامية
الشامخ؛ بمعنى أننا لو استلهمنا من هذه الآيات كل معانيها السامية
لاستطعنا أن نحوّلها إلى برامجعملية لقهر التخلّف الحضاري الذي نعاني منه.
ما هي الحضارة الحقيقية؟
والحضارة
هي: حضور الإنسان عند الإنسان، وتعاونه، وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور
المادي وانتهاءً بالتفاعلالمعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود
هي التي تشكل قواعد الحضارة.
والقرآن الكريم لا يريد لنا أن نكون
صوريين قشريين نتحدث فقط عن الإنجازات والمكاسب والبنى الفوقيةللحضارة، أو
عن القشور الخارجية للتقدم، بل يريد منا أن نكون موضوعييّن، واقعيين، من
ذوي الألباب؛ فإن تحدثناعن شيء تحدثنا عن خلفيّاته، وعن أول نشأته، وعن
طريقة نموّه وتكامله، ولا نكتفي بالحديث عندما انتهى إليه.
والقرآن
عندما يحدثنا عن المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بناه، وشيّد صرحه رسول
الإسلام سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم فيالمدينة المنورة فإنه لا
يحدثنا عن طبيعة البيوت، وطريقة تعبيد الطرق، ولا عن أسلوب بيعهم وشرائهم،
بل يحدثنا عنأمر آخر؛ عن قواعد الحضارة، وتلك الروح الكبيرة التي استطاعت
أن تستوعب شتات القبائل العربية المتناحرة التيكان شعارها الخوف، ودثارها
السيف، والتي كانت تعيش في وضع متأزم، ويهدد الفناء حياتها، وكانت طعمة
للغزاة.
ومع كل ذلك فقد حوّلهم رسول اللَّهصلى الله عليه وآله وسلم
برسالة الإسلام، وبالقرآن الكريم الذي بين أيدينا إلى ذلك المجتمع
الفاضلالذي يضرب به المثل في التقدم المعنوي والمادي.
قواعد الحضارة
ترى ما هي أسس وقواعد الحضارة التي يحدثنا عنها الخالق عز وجل في الآيات السابقة؟ أنها كما يلي:
1/ حبّ الآخرين
الأساس
الأول هو حبّ الآخرين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)، فعلى الرغم
من أن الإنسان مفطور علىالحسد، وحبّ الذات، وكره الآخرين، ولكن أولئك
الأنصار كانوا يستقبلون المهاجرين بالحبّ قبل كل شيء، وذلكعندما كانت
وفود المهاجرين تتقاطر عليهم تاركة بلدها، وأموالها، وإمكاناتها
الاجتماعية، وقادمة صفر اليدين، لايملكون من مال الدنيا شيئاً.
إن
بإمكان الإنسان أن يصطنع الحبّ في قلبه، وبإمكانه أن يداهن، ويجامل
الآخرين دون أن يكنّ الحبّ الحقيقي لهم. أمّاالحبّ النابع من أعماق القلب
فهو شيء آخر، إنه يدلّ على تحول في أعمق أعماق الإنسان ولذلك قال تعالى
عنهميُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا)؛ أي أنّ حبّ هؤلاء يسمو على
كلعلاقاتهم؛ فما قيمة الدار، وما قيمة الأثاث والمتاع، وما قيمة العلائق
المادية الأخرى؟
2/ السموّ على الأمور المادية
إن الإيمان هو القيمة
الأسمى، فنفوسهم كانت تسمو على الأمور المادية، وعندما كانوا يدفعون
مقداراً من المال، أويتنازل الواحد منهم للمهاجرين عن الأرض والدار، أو عن
زوجته الثانية من خلال تطليقها ليتزوّجها المهاجر، فإنهمع ذلك لا يستعظم
ما قدّمه، ولا يرى قيمة له، فلا يلحق بما قدم مَنّاً ولا أدىً.
3/ الإيثار على النفس
الصفة
الثالثة تتمثل في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وهذا هو منتهى العطاءوالجود في سبيل اللَّه
تعالى.
4/ إيقاء النفس من الشح
وتلك الصفات الثلاث تجمعها صفة واحدة
أساسية يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَهُمُ الْمُفْلِحُونَ). وكلمة (من) جاءت بحيث تحتمل الجمع،
وتحتمل الأفراد في نفس الوقت، ولكنّ الكلمةالثانية (يوق) توحي بالمفرد،
لأن الإنسان عندما يوقى شحّ نفسه، ويخرج من زنزانة ذاته، فحينئذ سوف
لايكون إنساناً واحداً، بل سيكون في رحاب الجمع، ولا يلبث أن يصبح
مجتمعاً، ويتحول إلى حضارة.
إن الإنسان الذي يوقى شحّ نفسه، ويتحرّر من
ذاتيته وأنانيته فإنه سيلحق بتجمّع الرساليين عبر التاريخ؛ وينضمّ
إلىصفوف شخصيّات عظيمة مثل آدم، وإدريس، ونوح، وإبراهيم الخليل، وموسى بن
عمران، وعيسى بن مريم، ونبينامحمدصلى الله عليه وآله وسلم والأئمة
الأطهارعليهم السلام وسيلتحق بركب الحضارة التاريخية، ولذلك قال تعالى:
(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِفَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وهذه هي
الصفة الأساسية التي تتفرّع منها سائر الصفات.
إننا إذا أردنا أن نعرف
أنفسنا، وهل نحن في عداد هؤلاء الأشخاص الرساليين، فإن مقياسنا في ذلك هو
الصفاتالفرعية، فإن كان الواحد منا محباً للمهاجرين، ولايجد في صدره حاجة
مما أوتي، وكان مؤثراً على نفسه ولو كان بهخصاصة، فحينئذ سيكون ممّن قال
عنهم عز وجل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ).
الوحدة منطلق تأسيس الحضارة
إننا قد لا نعيش أزمة
حضارية، وقد لا نمر بالغليان الثوري الذي يهزّ المجتمع من الأعماق فنحتاج
إلى الإيثار، ولكننانعيش -لا ريب- في حالة نحتاج فيها إلى الوحدة، ولذلك
يقول اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَرَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا). فبداية تأسيس الحضارة، ومنطلق الوحدة
اعتراف الإنسان بالذنب، واعترافه باحتمال أن يصدرالخطأ منه برحابة صدر،
وإلا فإن أرضية الوحدة لا يمكن أن تتهيأ أبداً.
إن هذه الأرضية تتطلّب
مني أن اعترف بخطأي، واستغفر اللَّه، قبل أن أشير إلى أخطاء الآخرين،
واستغفر لهم. وإلى هذاالمعنى يشير قوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ). والغل يعني
أن تضمر فينفسك السوء للآخرين، فإن كان هذا السوء يعني أن تحبّ لنفسك ما
لا تحب لهم، وتكره لها ما لا تكرهه لهم، فإن هذامعناه أنك تحب أن يرتكبوا
خطأ، وينزلقوا، ويتوقفوا عن التحرك إلى الإمام. فالغل هو أي سوء تضمره في
نفسكللآخرين، ولذلك يقول عز وجل محذّراً من هذه الصفة: (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ
تَجْعَلْفِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ
رَؤوفٌ رَحِيمٌ).
والملاحظ هنا أن اللَّه سبحانه استخدم صفة الرأفة
والرحمة عندما تحدث عن ضرورة أن يكن المؤمنون الحبّ لبعضهمالبعض. وهذا
معناه أننا عندما نريد أن نتحدث عن التعاون، والوحدة بين الأصدقاء، فإن
علينا أن لا نتحدث معهم بلغةالجبار، ولغة عذاب اللَّه، بل بلغة رحمة
اللَّه ورأفته.
إن على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق ربه، فعندما تريد أن
تتعاون مع الآخرين فلا تحصِ أخطاءهم. فاللَّه سبحانه وتعالىهو الذي يتولى
المحاسبة والمراقبة، وهو الذي من أجله نعمل، وهو الغفور الرحيم.
إن هذه
هي الصورة الحقيقية للحضارة كما يرسمها لنا القرآن الكريم، فهي ليست مجرّد
كلمات وشعارات، أو إنجازاتمادية، بل هي مكاسب معنوية قبل كل شيء، وهي
تعاون ينطلق من حالة الإيثار.
ثمّ يصوّر لنا القرآن الكريم الجانب
المخالف للحضارة، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ
يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَكَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْلَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ
وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ).
ترى من أي فريق نريد أن نكون؟
إننا يجب أن نجتهد اليوم من أجل أن نكون من الفريق الأول، وللأسف فإن الكثير منّا يرفع شعار الوحدة، ولكنه عندمإ؛
ّّيواجه الواقع العملي سرعان ما ينهار، فتزلّ قدمه بما يرفع من شعار.
إننا
نعلم أن هناك خلافات، وأن هناك وجهات نظر مختلفة، وأسباباً تدعو إلى
الشقاق، ولكن لابد أن نتمتّع بتلك النفسيةالرحبة التي تستطيع أن تستوعب
الجميع، ولابد من أن نصمد أمام الخلافات، فلا نستسلم لأي إنسان يثيرنا
بصورة أوبأخرى بحيث تشتعل حرب لا تبقي ولا تذر بسبب أمور ثانوية تافهة.
أن
من العار علينا أن ندخل في صراع مع بعضنا البعض، فالأعداء يتربصون بنا
الدوائر، والقرآن الكريم يأمر أن نكونأشداء على الكافرين، أذلّة مع
المؤمنين الذين يتمثلون اليوم في التجمعات الإسلامية، والمؤسسات الدينية.
صحيح إنهناك الكثير من النفوس الطيبة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن أن
الشيطان قد تكون له بعض الخطوط في هذه التجمعاتوالمؤسسات، وقد يستطيع
النفوذ إلى مواقع قريبة من القيادة، ويمرّر إليها بعض الأوراق الصفراء
المليئة بالتهم ضد هذاوذاك، فإن لم تكن هذه القيادة متصفة بصفة الإيمان
الحق، والحكمة، والرشاد، والتريّث في الأمور فإنها ستقع لا محالة فيتلك
المزالق الشيطانية.
إن الشيطان قد لا يخدعك -كقائد- بشكل مباشر، ولكنه
يخدع من وراءك، كصديقك ومن يعمل معك، أو يخدعالطفيليين الذين يدورون
حولك، ويجعلك تنخدع من خلالهم. فلتعلم القيادات أنّها -هي الأخرى- قد تكون
طعمةسائغة للدوائر الاستعمارية، لأن وحدتنا تهددهم، وتشكل الخطر الرئيسي
عليهم، ولتتذكر قياداتنا إن شياطين الإنسلهم طرق خفية ، فلا تنس هذه
القيادات أن مواقعها خطيرة، وعليها أن لا تتورّط في الصراعات، ولا تنسى أن
بعضمن يحوم حولها قد يثير الخلاف باسمها، وفي هذه الحالة سيضطرّ القائد
إلى خوض الصراع بسبب عدم انتباهه وحذره.
وبالطبع؛ فإنه لا بأس أن يعتمد
القائد على مجموعة أو أجهزة معينة، ولكنّ القرار النهائي يجب أن يكون
بيده، كما يقولعز وجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران/159).
فالحذر الحذر من أن يتدخّل
الآخرون سلبياً في قرارات القائد، وخصوصاً في قضايا الصراع، فإنهم في هذه
الحالةسيشعلون نار هذا الصراع، ويتركون القائد يحترق في نارها دون أن يشعر.
إن
من الواجب على الأمة الإسلامية أن تنصح القيادة، وربّما يكون من أبرز
معاني النصيحة أن تقول لها الحق، ولاتحاول التأثير على قراراتها من خلال
التقارير الكاذبة. وهذه هي من أهم واجبات من يحيط بالقيادات في
المؤسساتالدينية، أو التجمعات الإسلامية.
وقد يصبح الواحد منّا قائداً
في المستقبل، وأنا أوجّه تحذيراتي هذه بالدرجة الأولى إلى الشباب الرسالي،
وإلى طلابالعلم الذين من الممكن أن يتصدّوا لمراكز قيادية في المستقبل،
فالفتيا لا تنحصر في مسائل الدماء والطهارة وما إلى ذلكمن أبواب الفقه،
بل إن المواقف هي فتاوى بحدّ ذاتها، فلنتخذ مواقفنا هذه بوعي وعمق،
ولنفكّر ونجيل النظر فيها قبلأن نتخذها. فالفقيه من الممكن أن ينفق عشرات
الأيام من أجل أن يعرف حكم مسألة شرعية قد لا يبتلي بها إلا القلةمن
الناس، أما بالنسبة إلى المواقف فيبغي أن ننفق عليها أضعافاً مضاعفة من
الأيام لكي لا نقع في أخطاء فادحة تسببالضرر إلى الأمة كلها.
وكل ذلك
من الممكن أن نتفاداه من خلال تطبيق الأسس الحضارية التي أشارت إليها
الآيات القرآنية السابقة، والتيتعتمد بالدرجة الأولى على الأساس الأكبر
المتمثل في سيادة روح المحبة، والتآلف والتعاون بين صفوف المؤمنين
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ
أُوتُواوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *
وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْيَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ*
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْأَحَداً أَبَداً وَإِن
قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
* لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا
لاَيَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ
لاَ يُنصَرُونَ)(الحشر/12-9)
في هذه الآيات الكريمة صورتان متقابلتان
ومتناقضتان عن الإيمان والنفاق، ففي حين تشعّ صورة الإيمان في حدثتأريخي
هام هو إيثار الأنصار للمهاجرين على أنفسهم بكلّ ما يملكون، وخروجهم من
شحّ ذواتهم إلى رحاب القيموالمبادئ، تتجلى الصورة الثانية في حالة
النفاق، والغلّ، والكذب، والدجل، التي كانت قائمة بين الكفّار من أهل
الكتابوالمشركين أو المنافقين الذين وعدوهم بالنصرة ثم خذلوهم، وخانوهم.
إن في هاتين الواقعتين التاريخيتين؛ واقعة إيثار الأنصار وحادثة دجل المنافقين وكذبهم على أهل الكتاب من اليهود،ألفَ عبرة وعبرة لنا.
وفي
الواقع؛ فإن الآيات القرآنية تحدثنا عن قضية معينة، ولكن من خلال أفق أوسع
بحيث إننا لو استندنا إلى آية قرآنيةواحدة لاستطعنا من خلال منظارها أن
نرى العالم كله. فعلى الرغم من أن الآية الواحدة تبين لنا حقيقة خاصة إلا
أنهاتضمنت أيماءً وإشارة إلى سائر الحقائق الكونية، وهذا من معاجز القرآن
الكريم.
والآيات التي أوردناها في مقدّمة هذا البحث يمكننا أن نستوحي
منها القواعد التي لابد أن ننطلق منها لبناء صرحالحضارة الإسلامية
الشامخ؛ بمعنى أننا لو استلهمنا من هذه الآيات كل معانيها السامية
لاستطعنا أن نحوّلها إلى برامجعملية لقهر التخلّف الحضاري الذي نعاني منه.
ما هي الحضارة الحقيقية؟
والحضارة
هي: حضور الإنسان عند الإنسان، وتعاونه، وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور
المادي وانتهاءً بالتفاعلالمعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود
هي التي تشكل قواعد الحضارة.
والقرآن الكريم لا يريد لنا أن نكون
صوريين قشريين نتحدث فقط عن الإنجازات والمكاسب والبنى الفوقيةللحضارة، أو
عن القشور الخارجية للتقدم، بل يريد منا أن نكون موضوعييّن، واقعيين، من
ذوي الألباب؛ فإن تحدثناعن شيء تحدثنا عن خلفيّاته، وعن أول نشأته، وعن
طريقة نموّه وتكامله، ولا نكتفي بالحديث عندما انتهى إليه.
والقرآن
عندما يحدثنا عن المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بناه، وشيّد صرحه رسول
الإسلام سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم فيالمدينة المنورة فإنه لا
يحدثنا عن طبيعة البيوت، وطريقة تعبيد الطرق، ولا عن أسلوب بيعهم وشرائهم،
بل يحدثنا عنأمر آخر؛ عن قواعد الحضارة، وتلك الروح الكبيرة التي استطاعت
أن تستوعب شتات القبائل العربية المتناحرة التيكان شعارها الخوف، ودثارها
السيف، والتي كانت تعيش في وضع متأزم، ويهدد الفناء حياتها، وكانت طعمة
للغزاة.
ومع كل ذلك فقد حوّلهم رسول اللَّهصلى الله عليه وآله وسلم
برسالة الإسلام، وبالقرآن الكريم الذي بين أيدينا إلى ذلك المجتمع
الفاضلالذي يضرب به المثل في التقدم المعنوي والمادي.
قواعد الحضارة
ترى ما هي أسس وقواعد الحضارة التي يحدثنا عنها الخالق عز وجل في الآيات السابقة؟ أنها كما يلي:
1/ حبّ الآخرين
الأساس
الأول هو حبّ الآخرين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)، فعلى الرغم
من أن الإنسان مفطور علىالحسد، وحبّ الذات، وكره الآخرين، ولكن أولئك
الأنصار كانوا يستقبلون المهاجرين بالحبّ قبل كل شيء، وذلكعندما كانت
وفود المهاجرين تتقاطر عليهم تاركة بلدها، وأموالها، وإمكاناتها
الاجتماعية، وقادمة صفر اليدين، لايملكون من مال الدنيا شيئاً.
إن
بإمكان الإنسان أن يصطنع الحبّ في قلبه، وبإمكانه أن يداهن، ويجامل
الآخرين دون أن يكنّ الحبّ الحقيقي لهم. أمّاالحبّ النابع من أعماق القلب
فهو شيء آخر، إنه يدلّ على تحول في أعمق أعماق الإنسان ولذلك قال تعالى
عنهميُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا)؛ أي أنّ حبّ هؤلاء يسمو على
كلعلاقاتهم؛ فما قيمة الدار، وما قيمة الأثاث والمتاع، وما قيمة العلائق
المادية الأخرى؟
2/ السموّ على الأمور المادية
إن الإيمان هو القيمة
الأسمى، فنفوسهم كانت تسمو على الأمور المادية، وعندما كانوا يدفعون
مقداراً من المال، أويتنازل الواحد منهم للمهاجرين عن الأرض والدار، أو عن
زوجته الثانية من خلال تطليقها ليتزوّجها المهاجر، فإنهمع ذلك لا يستعظم
ما قدّمه، ولا يرى قيمة له، فلا يلحق بما قدم مَنّاً ولا أدىً.
3/ الإيثار على النفس
الصفة
الثالثة تتمثل في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وهذا هو منتهى العطاءوالجود في سبيل اللَّه
تعالى.
4/ إيقاء النفس من الشح
وتلك الصفات الثلاث تجمعها صفة واحدة
أساسية يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَهُمُ الْمُفْلِحُونَ). وكلمة (من) جاءت بحيث تحتمل الجمع،
وتحتمل الأفراد في نفس الوقت، ولكنّ الكلمةالثانية (يوق) توحي بالمفرد،
لأن الإنسان عندما يوقى شحّ نفسه، ويخرج من زنزانة ذاته، فحينئذ سوف
لايكون إنساناً واحداً، بل سيكون في رحاب الجمع، ولا يلبث أن يصبح
مجتمعاً، ويتحول إلى حضارة.
إن الإنسان الذي يوقى شحّ نفسه، ويتحرّر من
ذاتيته وأنانيته فإنه سيلحق بتجمّع الرساليين عبر التاريخ؛ وينضمّ
إلىصفوف شخصيّات عظيمة مثل آدم، وإدريس، ونوح، وإبراهيم الخليل، وموسى بن
عمران، وعيسى بن مريم، ونبينامحمدصلى الله عليه وآله وسلم والأئمة
الأطهارعليهم السلام وسيلتحق بركب الحضارة التاريخية، ولذلك قال تعالى:
(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِفَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وهذه هي
الصفة الأساسية التي تتفرّع منها سائر الصفات.
إننا إذا أردنا أن نعرف
أنفسنا، وهل نحن في عداد هؤلاء الأشخاص الرساليين، فإن مقياسنا في ذلك هو
الصفاتالفرعية، فإن كان الواحد منا محباً للمهاجرين، ولايجد في صدره حاجة
مما أوتي، وكان مؤثراً على نفسه ولو كان بهخصاصة، فحينئذ سيكون ممّن قال
عنهم عز وجل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ).
الوحدة منطلق تأسيس الحضارة
إننا قد لا نعيش أزمة
حضارية، وقد لا نمر بالغليان الثوري الذي يهزّ المجتمع من الأعماق فنحتاج
إلى الإيثار، ولكننانعيش -لا ريب- في حالة نحتاج فيها إلى الوحدة، ولذلك
يقول اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَرَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا). فبداية تأسيس الحضارة، ومنطلق الوحدة
اعتراف الإنسان بالذنب، واعترافه باحتمال أن يصدرالخطأ منه برحابة صدر،
وإلا فإن أرضية الوحدة لا يمكن أن تتهيأ أبداً.
إن هذه الأرضية تتطلّب
مني أن اعترف بخطأي، واستغفر اللَّه، قبل أن أشير إلى أخطاء الآخرين،
واستغفر لهم. وإلى هذاالمعنى يشير قوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ). والغل يعني
أن تضمر فينفسك السوء للآخرين، فإن كان هذا السوء يعني أن تحبّ لنفسك ما
لا تحب لهم، وتكره لها ما لا تكرهه لهم، فإن هذامعناه أنك تحب أن يرتكبوا
خطأ، وينزلقوا، ويتوقفوا عن التحرك إلى الإمام. فالغل هو أي سوء تضمره في
نفسكللآخرين، ولذلك يقول عز وجل محذّراً من هذه الصفة: (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ
تَجْعَلْفِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ
رَؤوفٌ رَحِيمٌ).
والملاحظ هنا أن اللَّه سبحانه استخدم صفة الرأفة
والرحمة عندما تحدث عن ضرورة أن يكن المؤمنون الحبّ لبعضهمالبعض. وهذا
معناه أننا عندما نريد أن نتحدث عن التعاون، والوحدة بين الأصدقاء، فإن
علينا أن لا نتحدث معهم بلغةالجبار، ولغة عذاب اللَّه، بل بلغة رحمة
اللَّه ورأفته.
إن على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق ربه، فعندما تريد أن
تتعاون مع الآخرين فلا تحصِ أخطاءهم. فاللَّه سبحانه وتعالىهو الذي يتولى
المحاسبة والمراقبة، وهو الذي من أجله نعمل، وهو الغفور الرحيم.
إن هذه
هي الصورة الحقيقية للحضارة كما يرسمها لنا القرآن الكريم، فهي ليست مجرّد
كلمات وشعارات، أو إنجازاتمادية، بل هي مكاسب معنوية قبل كل شيء، وهي
تعاون ينطلق من حالة الإيثار.
ثمّ يصوّر لنا القرآن الكريم الجانب
المخالف للحضارة، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ
يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَكَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْلَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ
وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ).
ترى من أي فريق نريد أن نكون؟
إننا يجب أن نجتهد اليوم من أجل أن نكون من الفريق الأول، وللأسف فإن الكثير منّا يرفع شعار الوحدة، ولكنه عندمإ؛
ّّيواجه الواقع العملي سرعان ما ينهار، فتزلّ قدمه بما يرفع من شعار.
إننا
نعلم أن هناك خلافات، وأن هناك وجهات نظر مختلفة، وأسباباً تدعو إلى
الشقاق، ولكن لابد أن نتمتّع بتلك النفسيةالرحبة التي تستطيع أن تستوعب
الجميع، ولابد من أن نصمد أمام الخلافات، فلا نستسلم لأي إنسان يثيرنا
بصورة أوبأخرى بحيث تشتعل حرب لا تبقي ولا تذر بسبب أمور ثانوية تافهة.
أن
من العار علينا أن ندخل في صراع مع بعضنا البعض، فالأعداء يتربصون بنا
الدوائر، والقرآن الكريم يأمر أن نكونأشداء على الكافرين، أذلّة مع
المؤمنين الذين يتمثلون اليوم في التجمعات الإسلامية، والمؤسسات الدينية.
صحيح إنهناك الكثير من النفوس الطيبة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن أن
الشيطان قد تكون له بعض الخطوط في هذه التجمعاتوالمؤسسات، وقد يستطيع
النفوذ إلى مواقع قريبة من القيادة، ويمرّر إليها بعض الأوراق الصفراء
المليئة بالتهم ضد هذاوذاك، فإن لم تكن هذه القيادة متصفة بصفة الإيمان
الحق، والحكمة، والرشاد، والتريّث في الأمور فإنها ستقع لا محالة فيتلك
المزالق الشيطانية.
إن الشيطان قد لا يخدعك -كقائد- بشكل مباشر، ولكنه
يخدع من وراءك، كصديقك ومن يعمل معك، أو يخدعالطفيليين الذين يدورون
حولك، ويجعلك تنخدع من خلالهم. فلتعلم القيادات أنّها -هي الأخرى- قد تكون
طعمةسائغة للدوائر الاستعمارية، لأن وحدتنا تهددهم، وتشكل الخطر الرئيسي
عليهم، ولتتذكر قياداتنا إن شياطين الإنسلهم طرق خفية ، فلا تنس هذه
القيادات أن مواقعها خطيرة، وعليها أن لا تتورّط في الصراعات، ولا تنسى أن
بعضمن يحوم حولها قد يثير الخلاف باسمها، وفي هذه الحالة سيضطرّ القائد
إلى خوض الصراع بسبب عدم انتباهه وحذره.
وبالطبع؛ فإنه لا بأس أن يعتمد
القائد على مجموعة أو أجهزة معينة، ولكنّ القرار النهائي يجب أن يكون
بيده، كما يقولعز وجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران/159).
فالحذر الحذر من أن يتدخّل
الآخرون سلبياً في قرارات القائد، وخصوصاً في قضايا الصراع، فإنهم في هذه
الحالةسيشعلون نار هذا الصراع، ويتركون القائد يحترق في نارها دون أن يشعر.
إن
من الواجب على الأمة الإسلامية أن تنصح القيادة، وربّما يكون من أبرز
معاني النصيحة أن تقول لها الحق، ولاتحاول التأثير على قراراتها من خلال
التقارير الكاذبة. وهذه هي من أهم واجبات من يحيط بالقيادات في
المؤسساتالدينية، أو التجمعات الإسلامية.
وقد يصبح الواحد منّا قائداً
في المستقبل، وأنا أوجّه تحذيراتي هذه بالدرجة الأولى إلى الشباب الرسالي،
وإلى طلابالعلم الذين من الممكن أن يتصدّوا لمراكز قيادية في المستقبل،
فالفتيا لا تنحصر في مسائل الدماء والطهارة وما إلى ذلكمن أبواب الفقه،
بل إن المواقف هي فتاوى بحدّ ذاتها، فلنتخذ مواقفنا هذه بوعي وعمق،
ولنفكّر ونجيل النظر فيها قبلأن نتخذها. فالفقيه من الممكن أن ينفق عشرات
الأيام من أجل أن يعرف حكم مسألة شرعية قد لا يبتلي بها إلا القلةمن
الناس، أما بالنسبة إلى المواقف فيبغي أن ننفق عليها أضعافاً مضاعفة من
الأيام لكي لا نقع في أخطاء فادحة تسببالضرر إلى الأمة كلها.
وكل ذلك
من الممكن أن نتفاداه من خلال تطبيق الأسس الحضارية التي أشارت إليها
الآيات القرآنية السابقة، والتيتعتمد بالدرجة الأولى على الأساس الأكبر
المتمثل في سيادة روح المحبة، والتآلف والتعاون بين صفوف المؤمنين